منير فاشه

مدير "الملتقى التربوي العربي"

ورقة مقدمة في مؤتمر المدارس الخاصة بالأردن

22-23 نيسان 2004 

 التجديد ليس قيمة، ولكنه يخدم قيما.  كذلك الحال بالنسبة لكلمات ومصطلحات أخرى شائعة، مثل التميّز والإبداع والتطور والتقدم والتنمية، فهي ليست قيما وإنما تنبع من إدراك وقيم، وتخدمها. 

المعرفة ليست قيمة، ولكنها تخدم قيما.  وهذا صحيح بالنسبة لأدوات أخرى مستعملة، مثل العلوم والتكنولوجيا واللغة والأبحاث والملكية الفكرية، فهي ليست قيما وإنما تنبع من إدراك وقيم، وتخدمها. 

من الضروري عدم الخلط بين الكلمات والمصطلحات والأدوات من جهة، والقيم والمبادئ والإدراك من جهة أخرى.  كذلك، من الضروري التمييز بين القيم التي ندعيها، والقيم التي لا نتناقض معها في عملنا وتعاملنا.  في هذه الورقة عندما أذكر كلمة قيم فإنني لا أعني القيم التي ندعيها في أقوالنا وإنما القيم التي لا نتعارض معها في أفعالنا وحياتنا وتعاملنا.  ومن الجدير بالذكر أننا إذا تكلمنا عن كلمات وأدوات دون ذكر القيم، فإننا بطبيعة الأمور نخدم القيم السائدة – سواء وعينا ذلك أم لم نع. 

لهذا فإن الحديث عن الإدراك والقيم يجب أن يسبق الحديث عن التجديد.  من هنا، سأذكر باختصار القيم السائدة أولا، ثم سأتبعها بقيم أخرى أراها شخصيا أكثر إنسانية للعيش بموجبها.  أعرض هذه القيم (ضمن الإدراك الثاني) ليس وكأنها القيم الوحيدة وعلى جميع الناس أن يقبلوها، وإنما كتجسيد لما تبلور لدي عبر ما يزيد عن 30 سنة من العمل والتجربة والتأمل والتناقش حول التعلم والتعليم والتربية والعمل المجتمعي.  وآمل أن يقوم كل شخص بالتأمل فيما يعمله، والتأمل في إدراكه لنفسه وعلاقته بالعالم ولما يجري حوله، وفي القيم التي يعيش وفقها في أفعاله وتعامله. 

أما القيم السائدة ضمن الفكر المؤسسي الحديث بشكل عام، فيمكن تلخيصها بقيم السيطرة والفوز على الآخرين والربح السريع (والذي يشمل اكتساب رموز مثل ألقاب وجوائز ووظائف وعلامات).  أما الوسائل الرئيسية لهذه القيم فتشمل المنافسة وقياس الناس والمجتمعات حسب خط رأسي يدعي الموضوعية، كما تشمل كلمات مثل التميز والتطور والتقدم على مسار أحادي عالمي.  وهذه القيم مرتبطة بنمط الاستهلاك في العيش واعتبار السوق نقطة انطلاق ومرجعا.  فالتجديد ضمن هذا التوجه يعني عمليا ملاحقة آخر "موضة" أو سلعة في سوق التعليم والتنمية (سواء أكانت فكرة أم نموذجا أم جهازا أم...)، والفوز على الآخرين عن طريق السبق في تطبيق تلك "الموضة" أو السلعة.  ومن بين "الموضات" الرائجة مؤخرا: تكنولوجيا المعلومات ومجتمعات المعرفة والملكية الفكرية والحكم الرشيد والنظريات الحديثة في التربية (والتي تفعل في التربة الحياتية الثقافية الحضارية ما تفعله الأسمدة الكيماوية في التربة الأرضية، فكلاهما يقتلان الحيوية الطبيعية والقدرة على توليد "الأغذية" الطبيعية الضرورية للنمو والاستمرار). 

أما بالنسبة للقيم التي أقترح أن نناقشها وأن نعيش ونتعامل وفقها في أفكارنا وإدراكاتنا وأعمالنا وتعاملنا فتشمل الحكمة، والتنوع، والصدق، وسلامة الصحة الجسمية والنفسية، وحيوية ومتانة النسيج الاجتماعي والروحي بين الناس وفي المجتمع، واحترام الطبيعة (بمعنى عدم الإضرار بها عن وعي).  من الجدير بالذكر أن القيم المرتبطة بالإدراك الأول تتناقض مع القيم المرتبطة بالإدراك الثاني، فمثلا، لا يمكن أن نجمع بين الفوز على الآخرين وبين الصدق، أو أن نجمع بين السعي نحو التميز والسعي نحو الحقيقة.  لذا فإن على كل مدرسة أن تقرر أي القيم ترغب أن تسير وفقها، والتي تحدد بالتالي نوع التجديد الذي تتبعه.  باختصارشديد، ما أقترحه هنا هو ليس جوابا جاهزا وإنما نهجا يتلخص في أهمية أن يقوم كل شخص (مدرسة) بوضع جهد لتوضيح القيم التي يرغب العيش والتعامل وفقها، وأن يكون صادقا في فكره وتعبيره عما يفعله. 

اخترت كمدخل للتجديد أن أكتب عن إدراكٍ للإنسان يتناسق مع المجموعة الثانية من القيم المذكورة أعلاه، والذي يمكن تلخيصه في أن كل شخص شريك في اختيار الكلمات والتعابير وفي تكوين المعاني والمعايير (وهو إدراك في منتهى الأهمية ولكنه في نفس الوقت في منتهى الإهمال).  فتكوين معان ومعايير وتعابير مبنية على نضجٍ في الخبرة وتأمل فيها والتعبير عنها والحوار حولها يتوافق مع قيم التنوع والصدق والحكمة واحترام كل شخص وكل خبرة.  كذلك، يشكل تكوين معانٍ بعدا هاما في عملية التعلم وبناء معارف، ويعكس إدراكا يختلف جذريا عما هو سائد بالنسبة للمعرفة.  يجسد مثل هذا التكوين مبدأ أن لكل إنسان الحرية والحق والواجب في أن يبحث بشكل مستقل عن المعاني والمعايير والمشاركة في تكوينها، وهي في رأيي جزء هام من الحرية الحقيقية التي سلبتها المدنية الحديثة من الناس ومنحتها فقط لـ"مهنيين مرخّصين"!  وما يدعو للتساؤل حقا هو أنه بالرغم من أن المشاركة هي إحدى السلع الرائجة في سوق التعليم وبرامج التنمية في العصر الحاضر إلا أنها – ولغرض في نفس يعقوب كما يبدو – لا تشمل المشاركة في تكوين المعاني والمعايير! 

هناك معارف تتبلور وتتكون من خلال نضج وتأمل في الخبرات، ومعارف تتكون من خلال المشاهدة عبر فترة من الزمن وملاحظة ظواهر وعلاقات فيما بينها ومحاولة تفسيرها، ومعارف تتكون من خلال ما يُطلق عليه "تجارب علمية".  أركز في طرحي هنا على المعارف النابعة من نضج وتأمل في الخبرات، والتي تنطلق من الشراكة المذكورة أعلاه، والتي تكسر احتكار ما يُعتبر معرفة، وما لا يُعتبر، وما له قيمة وما ليس له.[1]  فأي عملية تجديد لا تنهي احتكار المصطلحات ومعانيها تبقى تحوم داخل القفص الفكري-اللغوي السائد والذي يدعي العالمية والموضوعية، وهو في حقيقة الأمر يخلق عقلا عبوديا.  إذ أن من السهل (عن طريق مثل هذا الاحتكار) السيطرة على العقول، والتي تتمثل في أكثر تجلياتها بقبول الادعاء بوجود مسار أحادي عالمي للتقدم، مما ساهم ويساهم في قتل التنوع والتعددية والغنى والحكمة – الموجودة بشكل طبيعي في مختلف مناحي الحياة. 

ما آمل وأطمح له من اعتبار هذه الشراكة أحد مكونات مفهوم التجديد الذي أود طرحه للنقاش، هو أن يعيد كل شخص – بشكل مستقل – النظر والبحث في الكلمات والمعايير التي يستعملها، ومحاولة تكوين معان تتوافق مع تجاربه وخبراته وتأملاته، ومن ثم التناقش حولها مع الآخرين.  مثل هذا المدخل يساهم عبر الزمن، بشكل طبيعي وصادق، في تكوين معان مشتركة وفكر جماعي.  نتكلم ضد الاستهلاك، ولكن من النادر أن يدخل استهلاك المعاني والمعايير والأفكار ضمن مفهومنا للكلمة، رغم أنه أخطر أنواع الاستهلاك! 

ربما يكون من المفيد توضيح الفرق بين إدراكين للمشاركة، وسأختار كلمة "تجديد" نفسها لتوضيح هذا الفرق.  هناك فرق بين أن يصيغ "مهني" أو "خبير" مفهومه للتجديد وثم يفتح المجال للمشاركة في النقاش، وبين أن يقوم كل شخص بصياغة مفهومه للتجديد، نتيجة انغماسٍ ونضجٍ وتأملٍ في خبرات وتجارب مرّ بها وشملت تجديدا، ومن ثم التناقشٍ حول الصياغات المختلفة. فكل شخص له واقع وتاريخ وخبرات وقناعات تشكل الأساس في بناء فهم ومعارف. 

يرتبط ما سبق بضرورة التمييز بين العقل المرتبط بالنص والعقل المرتبط بالحياة والحواس.  فالأول يبدأ بكلمات ومصطلحات ومعان ونماذج جاهزة، بينما يبدأ الثاني بنضج في الخبرات وتأمل فيها ومحاولة فهمها والتعبير عنها بكلمات ومعان خارج ما هو سائد.  فمثلا، إذا رغب شخص بدراسة مجتمع، فيمكن أن يبدأ بكلمات مثل ديمقراطية ومجتمع مدني وعلمانية وينظر إلى المجتمع من خلالها، كما يمكن أن يبدأ، في المقابل، بالعيش في ذلك المجتمع والتفاعل معه حتى يصل إلى درجة يشعر فيها بنضج في الخبرة والفهم والإدراك، ومن ثم يتجسد ذلك النضج في أسلوب حياته، وفي تعامله وتعابيره، وفي فهمه وتكوين معانيه ومعرفته (وهذا هو المعنى الذي أتبناه لكلمة إبداع. من هذا المنطلق لا يمكن تعليم الإبداع، ولكن من الممكن أن نوفر جوا غنيا وحرا وتفاعليا إلى درجة عالية تساعد على النضج في الخبرة وعلى الصدق في التعبير، وهما في رأيي أساس الإبداع). مثال آخر على العقول المرتبطة بالنص هو تعبير "مجتمعات متخلفة" (والذي تحوّل فيما بعد إلى "مجتمعات نامية").  فالتعبير لا يعكس فقط ضحالة في الخبرة وتخديرا للحواس، وإنما يعكس أيضا سوءا في الأخلاق وهزالة في الإدراك والتفكير، وفي بعض الأحيان سوءا في النية!  فواقع الأمر هو أننا – مثلنا مثل العديد من مجتمعات العالم – أصابتنا أمراض عصرية مستعصية، إلى جانب أمراض مستمرة فينا من السابق.  المشكلة كما أراها تكمن في أن معظمنا يرى الأمراض المحلية ولكن يعجز عن رؤية الأمراض الأخطر، مثل الاعتقاد بوجود مسار أحادي للتقدم (والذي يشار له عادة بالفكر العالمي)، ومثل الاعتقاد بأنه يمكن قياس البشر والشعوب حسب مقياس رأسي.  فمقارنة البشر حسب مسطرة رأسية عالمية هو في رأيي تحقير للناس وإهمال للتنوع وتمزيق ل"العالم الداخلي" للشخص والنسيج في المجتمع.  فمثلا، قياس جميع الطلبة في عمر 18 عاما في كل دولة، حسب مقياس واحد في نهاية المرحلة الثانوية هو مثال على تسطيح المعرفة وإهمال التنوع والحكمة وتمزيق الإنسان من الداخل والخارج.[2] 

في مقابل هذا التحطيم للتنوع والغنى الموجودين في الحياة والمجتمعات والبشر، نرى كيف تجسد حضارات أخرى الحكمة والتنوع والثقة بالنفس (النابعة من داخل الشخص) والنسيج الاجتماعي.  فنجد مثلا في الحضارة العربية الإسلامية مبدأ "قيمة كل امرئ ما يحسنه" (والذي أعمل منذ فترة على أن يكون المبدأ الأساسي للتربية العربية في الوقت الحاضر)، ونجد في الفلسفة الهندية أن "كل إنسان كامل بشكل فريد"، وفي المسيحية الشرقية "أحبوا بعضكم بعضا"، ونجد في حضارات سكان أمريكا الأصليين (قبل أن يبيدهم الأوروبيون) التركيز على الاهتمام بالجيل السابع (أي من الهام النظر فيما إذا كان ما نعمله الآن يؤثر سلبا على الأجيال القادمة، وإذا كان الأمر كذلك يجب التوقف عن القيام به مهما كانت المكاسب على أصعدة أخرى).  هذه وغيرها من الحضارات تعكس حكمة تتناقض كليا مع قياس الأشخاص والمجتمعات حسب مسطرة رأسية تدعي الموضوعية والعالمية. 

*      *      * 

عملت في مجال التربية والتعليم ما يقارب من الأربعين سنة.  ولعل الاقتناع الذي نمى وتعمّق في داخلي نتيجة تلك الخبرة هو أن الهزيمة الحقيقية هي التي تحدث داخل الإنسان، على الصعيد النفسي الإدراكي: عندما يعتقد شخص أن ما لديه ليس له قيمة، وأن جلّ ما يستطيع عمله هو تقليد الآخرين.  ومن بين الوسائل لإلحاق مثل هذه الهزيمة تكمن في تحويل الشخص من بانٍ للمعنى إلى مستهلك لمعانٍ جاهزة يبنيها آخرون. 

عندما تتعطل الحواس، ويُستبدَل الوجود بالرموز والأفكار، نتخدر ونفقد الأمانة الفكرية ويصبح الخداع أمرا مشروعا بل  يصبح قيمة (رغم أنه يتخذ أسماء أخرى مثل علم "التسويق").  وفي بعض الأحيان يصل الوضع درجة عالية من التخدير والخداع وغياب الأمانة الفكرية، يفقد معها الشخص وعيه بأنه مخدَّر، مثل ما يحدث على سبيل المثال، لـ "خبير" في التربية من جامعة غربية "مرموقة" يذهب إلى بلد مثل مصر، حاملا معه حلولا جاهزة لتحسين وتطوير التعليم في مصر، دون أن يكون قد عاش في مصر وعرف أهل مصر وتاريخ مصر!  كيف يمكن أن يصل التخلف لدى شخص إلى درجة يعتقد فيها أن بإمكانه معرفة الحل لمشاكل وقضايا في بلد غني مثل مصر دون أن يكون قد زاره من قبل؟!  التفسير الوحيد هو أن ذلك الشخص نفسه مخدَّر، وأن المخدِّر هو عبارة عن خلطة من المكافآت المالية والألقاب الفخمة (مثل كلمة خبير نفسها)، ومن مؤسسات تعطي له ولحلّه شرعية وقيمة، كما أن أحد مكونات تلك الخلطة هو المصطلحات والنظريات الجاهزة للتصدير والاستهلاك.  ومن بين أخطر حالات التخدير التي نعيشها في عالم اليوم هي الحالة المتمثلة بحقيقة ملغاة تماما من وعي الناس، ألا وهي أن المعارف والعلوم التي بنيت ونمت وتكونت خلال ال 300 سنة الماضية خلقت من المشاكل أكثر بكثير مما حلّت. سأختار علم الكيمياء للتوضيح. 

تدرّس الكيمياء في جميع مناهج العالم، وتدرس تطبيقاتها في جميع الميادين.  ولكن لا يوجد منهاج واحد (وأرجو تصحيحي إن كنت مخطئا) مذكور فيه أن ما أحدثه علم الكيمياء من تلوث في جسم الإنسان والطبيعة خلال المائة سنة الماضية يجعله أكبر ملوّث للإنسان والطبيعة عبر التاريخ!  ولعل حقيقة أن مواد التنظيف هي ثاني أكبر ملوِّث في الولايات المتحدة تعكس حال العالم المعاصر، تعكس مثلا التناقض الهائل بين القول والفعل، بين الأهداف المعلنة والنتائج الفعلية.  ولكن من الواضح أنه من غير المناسب التحدث عن التلوث في أي منهاج في عالم يلهث وراء المنافسة والربح السريع وتنمية اقتصادية تهمل ما يحدث للإنسان والطبيعة والعلاقات بين البشر، ويهتم بدلا من ذلك – كما يفعل مثلا "تقرير التنمية الإنسانية العربية" – بالمؤشرات الاقتصادية والمعارف التقنية وقدرات ثانوية وبناء مجتمعات معرفة!  من حقنا أن نتساءل: أليس مهما أن يعرف الأهل لماذا ما يدخل معدات الأطفال ليس أمرا هاما وحيويا إلى درجة تجعل من الضروري إدخاله في المنهاج؟  أليس هاما أن تعرف "مجتمعات المعرفة" التي يُروَّج لها حاليا مضار المعارف والعلوم بشكلها الشائع (أي التي تفتقر إلى الحكمة) وليس فقط إنجازاتها ؟  أوليس جزءا من حقوق الأطفال هو حمايتهم مما يضرهم يوميا في عمق أجسامهم ويضر البيئة من حولهم؟ كيف نفسر عدم اهتمام المؤسسة التعليمية بأمور بهذه الأهمية؟  أليست هذه المعرفة جزءا من "مجتمعات المعرفة"؟  لماذا لا نجد في أي منهاج في العالم موقعا واضحا لما يفعله علم الكيمياء في التربة، سواء من حيث الأسمدة أو النفايات الكيماوية، خاصة ما لا يمكن تدويره مثل البطاريات، والتي في نهاية الأمر تدفن في باطن الأرض، تماما كما تدفن الكولا والزيوت المصنّعة والهرمونات في معدات الأطفال، وكما تُدفن السموم التي تُبثّ عبر التلفزيون في نفوسهم وعقولهم!  كيف نفسر اهتمام الإنسان المعاصر بسيارته أكثر من أطفاله، إذ من الصعب مثلا أن نجد شخصا يضع كازا في سيارته بينما نجد عديدين لا مانع لديهم أن تُصبَّ الكولا أو الماكدونالدز في  معدات أطفالهم.[3] 

من الواضح أنه ضمن هذه النظرة للأمور، لا يكمن التحدي في خلق معارف أكثر (من النوع السائد) وإنما في إطلاق سراح الحكمة التي سجنها العقل منذ ديكارت وفرانسس بيكون، حتى يكون في مقدورنا مرة ثانية أن نبني معارف أكثر توافقا مع صحة الإنسان (الجسمية والنفسية) ومع العلاقات الجميلة بين الناس واحترام الطبيعة.  وغياب الحكمة هو في رأيي سبب أساسي لكثير من المآسي والكوارث الاجتماعية والنفسية والبيئية التي نشاهدها حول العالم.  من الضروري أن نحرر أنفسنا من مفهوم العلم الذي صاغه "أبو العلم الحديث" "فرانسس بيكون" والذي يتلخص في إخضاع الطبيعة والسيطرة عليها لأغراض وأهواء البعض، والتي نرى عواقبها المدمِّرة بوضوح في الوقت الحاضر. ومما يدعو للأسى أن "تقرير التنمية البشرية العربية" يسير في هذا الطريق، بدلا من أن يسلك مسارا نحن أقرب إليه في المجتمعات العربية، وهو مسار يجسّد حكمة وتنوعا كما أنه يعيد الاهتمام بالحواس والتاريخ والواقع والمقومات البشرية والحضارية وما يحدث للناس والمجتمعات والطبيعة. إذن، من الصعب أن نتكلم عن أي تجديد في التعليم والتعلم دون إطلاق سراح الحكمة، وهذه العملية لا يمكن أن تتم من قبل غربيين (ففاقد الشيء لا يعطيه) وإنما من قبل حضارات (مثل الحضارة العربية والهندية والصينية والفارسية والحضارات التي سادت في أفريقيا والأمريكتين قبل القضاء شبه التام عليها – والتي يطلق عليها الآن صفة متخلفة وغير نامية…).  بعبارة أخرى، من الضروري إعادة النظر في إدراكنا لأنفسنا ودورنا وعلاقتنا مع العالم من حولنا، وفي إعادة النظر في معنى معرفة وتعلم....  ما أعنيه بحكمة يشمل في أبسط الحالات النظر إلى الأمور – قدر الإمكان – بكليتها، أي بعلاقاتها مع بعضها البعض، بعواقبها… كما يشمل العمل بشكل يتوافق مع صحة الإنسان الجسمية والنفسية، والعلاقات الجميلة بين الناس، والطبيعة. 

إن تركيزي هنا على الكلمات والمعاني والمعايير والمعارف النابعة من الحياة لا يعني إهمال ما هو موجود في الكتب والمعاجم والقواميس، ولكنها ليست المرجع، وإنما حياة الشخص وواقعه وخبراته وتأملاته تشكل المرجع في معظم مناحي الحياة.  ما من شك أن هناك بعض الأمور التي تحتاج إلى معرفة لا يمكن إدراكها عن طريق الخبرة وحدها، كما أن هناك خبرات أخرى تدرك الأمور بأشكال أخرى.  من هنا استعملت في العنوان كلمة "الشراكة".  

عمليا، أين وكيف يمكن أن نبدأ؟ 

لا شك أن لدى كل منا بعض الكلمات التي تشغلنا ونفكر فيها باستمرار، والتي يمكن أن نكون شركاء في تكوين معانيها. 

كذلك، لا شك أن هناك معاييرا لا نرتاح لها، مما يعني إمكانية أن نكون شركاء في تكوين معايير تكون أكثر توافقا مع قيم نرغب العيش بموجبها. 

وما من شك أيضا أن هناك كلمات نعيشها يوميا دون أن نتأمل فيها أو نتحادث أو نتناقش حولها باستمرار رغم أهميتها.  وأرى في هذا المجال يمكن عمل الكثير على مستوى "الملتقى الثقافي التربوي".  فمثلا يمكن تكوين عدة مجموعات، بمبادرات ذاتية، لا قسرية ولا رسمية، تجتمع دوريا خلال السنة، ومن الممكن أن تضم كل مجموعة أشخاصا من عدة مدارس، بحيث تختار كل مجموعة كلمة وتحاول تكوين معنى لها، تبدأ بقيام كل شخص في المجموعة ببلورة المعنى الذي يراه متوافقا مع خبرته وتأمله وقناعاته.  فمثلا يمكن أن تبحث مجموعة في معنى كلمة إدارة، وفي مجموعة ثانية كلمة حكمة، وفي ثالثة كلمة تجديد، وفي رابعة معنى قيم ...  وأقترح أن يتمحور اللقاء القادم حول ما ينبع من معان ومعايير عبر هذه الجهود. 

 كلمة أخيرة: 

هناك محاولات عديدة حول العالم لإعادة بناء المناعة والقدرة الموجودتين طبيعيا في التربة الأرضية والتربة الحضارية في المجتمعات البشرية.  هذا لا يعني أن مجتمعاتنا خالية من الأمراض، ولكن يعني أن عملية الشفاء لا يمكن أن تتم إلا عن طريق جهد ذاتي ومناعة داخلية.  وهذا الأمر ينطبق على جسم إنسان مريض كما ينطبق على مجتمع بشري مريض.  لا يشفي الجسم إلا الجسم نفسه، إذ أن ما يمكن أن يفعله الأطباء والمحبون هو المساعدة في خلق أجواء تساعد الجسم على الشفاء.  فإذا فقد الجسم قدرته على شفاء نفسه، فلن ينفع عشرات الأطباء ومئات الأدوية…   كذلك الحال بالنسبة للمجتمع، يمكن أن نساعد في خلق أجواء، لا أكثر ولا أقل.  وفي رأيي أن أهم وسيلة لخلق أجواء صحية هو تجسيدها في عملنا وتعاملنا.  من هنا، فإن أول خطوة في أية عملية تجديد تتمثل بالشفاء من "المخدرات" السائدة في أسواق الفكر والتعليم والتنمية والثقافة والترفيه...

--------------------------------------------------------------------------------

[1] خلال الأعوام 73-1978 عملت موجها مركزيا للرياضيات في مدارس الضفة الغربية.  كان أحد المداخل التي استعملتها أثناء تجوالي هو طرح أسئلة، كان من بينها: ما معنى نقطة؟  من أجمل ما سمعته من إجابات جاء على لسان طفلة لا يتجاوز عمرها 7 سنوات، حين قالت: دائرة بدون ثقب!  استغرقني بضع ثوان لأعي ما عنته، ولأعي مدى الحيوية في خيال تلك الطفلة، ومدى القدرة لدى الأطفال على استيعاب مفاهيم نعتبرها صعبة، إذ أن ما قالته يتضمن مفهوم "النهاية" في التفاضل والتكامل. يعكس المثال الذي جسدته تلك الطفلة حقيقة أن ما نعرفه يفوق أضعاف ما نكتسبه أو نستطيع التعبير عنه من خلال الرموز والمصطلحات والنظريات المعترف بها، كما يفوق ما نستطيع أن نقيسه من خلال مقاييس وامتحانات هزيلة (محلية وعالمية).  فمن الواضح أن تلك الطفلة لم تقرأ ذلك "التعريف" في كتاب، بل أغلب الظن أنها خلال "لعبها" لرسم نقاط "نضجت" خبرتها وأُغني خيالها، فما كان منها إلا أن ترجمت ذلك – بلا وعي أو تخطيط – إلى تكوين المعنى الرائع الذي صاغته.  مثال رائع لمبدأ الشراكة في تكوين المعنى!  للتعرف على أمثلة أخرى على صعيد آخر، أنظر في الموقع الإلكتروني ل"الملتقى التربوي العربي" www.almoutaqa.com مقالين يجسدان الشراكة في تكوين معان.  يعطي المقال الأول  How to eradicate illiteracy without eradicating illiterates?  معنى للمعرفة مبني على مقارنة بين الرياضيات التي درستها ودرّستها وبين الرياضيات المجسدة في فكر وعمل أمي الأمية، بينما يعطي المقال الثاني "الجامعات العربية: تحول وتنوع في الإدراك" معنى ل"جامعة" مبني على تجربة طويلة في البحث عن تكوين بنى و أجواء تساعد الناس على التعلم. 

[2] هناك قصة يذكرها "كيث جونستون" في كتابه عن "الارتجال في العمل المسرحي" حول فتاة في مدرسة زارها ليعمل فيها مع الطلبة، وقد حذره الجميع بأن لدى تلك الفتاة مشكلة.  وخلال زيارته شاهد معلمة تأخذ الطلبة إلى الحديقة وأرادت المعلمة أن تكون لطيفة مع الفتاة فقطعت زهرة وقدمتها للفتاة قائلة: "هذه أجمل زهرة أهديها لك."  انزعجت الفتاة وقالت: "ولكن كل الأزهار جميلة."  وافقت المعلمة معها ولكنها أصرت على أن الزهرة التي قطعتها هي الأجمل.  فما كان من الفتاة إلا أن ارتمت على الأرض صارخة "كل الأزهار جميلة، كل الأزهار جميلة."  رفضتت الفتاة، ربما بطريقة فجة، قبول وجود زهرة هي الأجمل بشكل مطلق، أي رفضت مقارنة الأزهار حسب مسطرة رأسية عالمية.  فإذا كانت تلك الزهرة هي الأجمل بالنسبة للمعلمة، فليس من حقها أن تفرض رأيها على أحد مدعية الموضوعية والعالمية. 

[3] زارني في رام الله صديق من أمريكا قبل عشر سنوات، وعلّق على علب الكولا المرمية في الشوارع.  قلت له: "معك حق، فهذا أمر غير مبرر، ولكن، ألا ترى خللا في أنك ترى تلويث علبة الكولا للمكان ولكنك لا ترى تلويث محتويات العلبة لمعدات الأطفال؟"  وحسب نفس المنطق، نرى ونمنع الغش في الامتحانات ولكن لا نرى الغش الذي نقترفه يوميا في كل مدرسة وجامعة تقريبا والمتمثل بأن الطالب يقول ما لا يعنيه بل ما يتوقعه المعلم، وأن المعلم يقول ما لا يعنيه وإنما مل يتوقعه المدير... 

منير فاشة - مدير الملتقى التربوي العربي