مركزية المبادرة والحيوية وروح الجماعة في العمل التطوعي
سأبدأ بمبادرتين أعرفهما جيدا: العمل التطوعي خلال عقد السبعينات في الضفة الغربية بفلسطين، وتجربة من مخيم شاتيلا ببيروت بين 1997 و 2002.
المبادرة الأولى: العمل التطوعي الذي انطلق من مكتبتي رام الله والبيرة في العام 1971. كان هناك اجتماع أسبوعي يوم الخميس بعد الظهر للاتفاق حول الأمكنة التي سنذهب للعمل فيها يومي الجمعة والأحد. غالبا ما كنا نذهب مشيا على الأقدام، وكان العدد يصل في بعض الأحيان إلى مائة أو أكثر … تصوروا هذا العدد يسير ويغني في الطريق! في كثير من الأحيان كنا نقطع الجبال والوديان والسهول حتى نصل إلى المكان فنجلس مع السكان ونقرر مواقع وطبيعة العمل. وغالبا ما كان يتخلل العمل فترات راحة نحتسي فيها الشاي والقهوة ونأكل خبز الطابون والزيت والزعتر، ونتناقش فيها حول مواضيع متنوعة… كان هناك متعة لنا ولهم، كانت الحواجز بين الناس تذوب، والألقاب تتبخر، والأعمار تختفي، والشكل/ المظهر يفقد معناه. كان العمل واللقاء يساهمان في بناء "العالم الداخلي" لكل شخص وفي جدل نسيج اجتماعي روحي فكري ثقافي لا أزال أشعر بجماله حتى الآن. كانت المجموعات تضم أناسا من مختلف التوجهات والأعمار، وكان كل شيء يتم دون تدخل أو واسطة مؤسسات ومسؤولين، ولكن ذلك لا يعني أننا لم نكن نهتم بالمؤسسات إذ انتشرت الظاهرة في المدارس والجامعات وغيرها من المؤسسات. ولكن لم يكن هناك حاجة إلى موافقة من أحد حتى تتكوّن مجموعات وتبادر وتعمل… ثم في العام 1973 دخلت الفكرة إلى جامعة بيرزيت تحت اسم "برنامج العمل التعاوني" حيث يعمل كل طالب/طالبة 120 ساعة في أعمال مجتمعية كمتطلب للتخرج. وأذكر من بين الأشخاص الذين ساهموا في تكوين تلك الروح في ذلك الوقت: عبد الجواد صالح وسهام وسهير البرغوثي وفطين مسعد وعزمي الشعيبي وسليم تماري وفدوى اللبدي وسهى هندية وغيرهم. كما أذكر من بين الطلبة في تلك الفترة رياض العبد رشيد وإلسا حزبون وعلي حسونة وسونيا نمر وجمانة عوده وأحمد سعدات (كان طالبا في دار المعلمين) ومحرم البرغوثي وزكريا النحاس ومصطفى برغوثي وأمل وهدان وجواد بشير وغيرهم كثيرون …
فيما يلي بعض الأحداث و"الصور الذهنية" التي عكست روح تلك الفترة:
أذكر مثلا عندما قام بعض مدرسي وطلبة جامعة بيرزيت بتنظيف بعض شوارع رام الله عام 1973، داهمهم جنود الاحتلال واعتقلوا بعضهم (أذكر من الهيئة التدريسية مها أبو دية)، وقد حدت تلك الحادثة بالزجّال الفلسطيني، راجح السلفيتي، في حفلة في الجامعة تلت تلك الحادثة، لأن يلخصها بطريقته الفنية الرائعة:
هاي مكانس مش مدافع خايف ليش يا احتلال
والتي غناها طلبة الجامعة مدة طويلة بعد الحدث. كذلك، أذكر أن أحمد سعدات، في محاولته تصنيفي فكريا وسياسيا، أطلق صفة روماركسي عليّ إذ كما كان يقول: أشعر أنك في بعض الأحيان تعكس رومانسية في فكرك وتعبيرك وفي أحيان أخرى تعكس منطلقات ماركسية. من الجدير بالذكر أيضا أنه رافق العمل التطوعي في تلك الفترة قراءة كتب ومقالات ومناقشتها في مكتبتي رام الله والبيرة العامتين، كما كان جزء هام من العمل التطوعي في تلك الفترة أيضا نشاطات للأطفال شملت تعابير مختلفة، خاصة خلال فصل الصيف في مكتبة البيرة العامة، والتي كان لسليم البسط، أمين المكتبة، دور كبير فيها. وقد شارك في تلك النشاطات فنانون وأدباء، أذكر من بين الفنانين على سبيل المثال إميل عشراوي وفيرا تماري.
المبادرة الثانية: ميسون سكرية شابة لبنانية تطوعت وعملت قرابة خمس سنوات (ابتداء من العام 1997) مع عدد من أطفال مخيم شاتيلا الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم في المجازر التي تلت الاحتلال الإسرائيلي للبنان؛ عملت معهم في أمور عديدة منها اللعب معا والغناء معا والمشي في الجبال والسهول وعلى الشواطئ، ومنها أيضا بناء مكتبة في المخيم، ومنها قيام الأطفال بعروض مسرحية وغنائية … كان في ذلك التطوع متعة للأطفال ولميسون وكان تعلمٌ لهم ولها، وكانت روح المبادرة المحرك الرئيسي دوما (إذ لم تتبع ميسون نموذجا جاهزا…)، تم جدل نسيج جميل بينها وبينهم وأيضا فيما بينهم. كان ذلك من أجمل ما شاهدت في حياتي، ومن النادر أن يشاهده الإنسان في المدارس والمؤسسات إلا في حالات من خلال مبادرة شخصية لمعلم أو معلمة، وغالبا ما يدفعوا ثمنا لذلك بتهمة أنهم خرجوا عن المنهاج! وقد تمّ كل ذلك في المخيم دون تدخل من أية مؤسسة أو مهني ودون أية ميزانية، كما رافق كل ذلك نمو فكر وتعابير، ظهرت بأشكال مختلفة في كتابات ميسون وكتابات الفتيات والفتيان. [من الجدير ذكر ما حدث في نهاية تلك الفترة عندما دخلت المناهج الجديدة إلى المدارس، والتي لا تُبقي أي وقت لدى أحد لعمل أي شيء مفيد. لقد أدى ذلك إلى زيادة العبء على الطلبة مما اضطر ميسون لأن "تتطوع" لمساعدتهم ولكن هذه المرة مساعدتهم في فروضهم البيتية! فبينما ساهم تطوع ميسون في الحالة الأولى في جدل النسيج فيما بينهم، خدم تطوعها في الحالة الثانية عالم الاستهلاك… وشتان بين الاثنين!] أذكر مبادرة ميسون لأنها بالفعل مبادرة رائدة ولأني على اطلاع عليها، وهناك مبادرات أخرى اطلعت عليها حديثا لمتطوعين وعاملين يمثلون في رأيي جزءا هاما من قدرة المخيمات الفلسطينية على الحياة، وآمل أن يتم تبادل في الخبرات والتجارب بين المجموعات في فلسطين وفي لبنان، وأيضا مع مجموعات تطوعية في العالم العربي، كما آمل أن يشمل هذا التبادل تناقش حول الكلمات التي نستعملها وحول معانيها وحول إدراكنا لأنفسنا وعلاقتنا بالعالم وما يجري حولنا. البعد الفكري بهذا المعنى، لسبب غريب، غائب، ومن الضروري استعادته، وآمل أن يساهم هذا اللقاء في فلسطين في استعادته.
* * *
من بين أهم ما ميّز هاتين التجربتين روح المبادرة والحيوية وروح الجماعة، ولكن هذه تتطلب وجود مساحة/ حيّز/ فسحة يعمل فيها الناس دون تدخل من مؤسسات أو مهنيين أو أحزاب أو هيئات رسمية أو منظمات أهلية، كما تتطلب عدم وجود هرمية ومسؤولين داخل العمل التطوعي. وهذا بالضبط ما ميّز العمل خلال عقد السبعينات، إذ كان العمل التطوعي عبارة عن حيّز تخلقه مجموعات تتكوّن بفعل ذاتي، وتقوم بأعمال تمليها قناعتهم الداخلية وإصغاءهم للواقع، وبذلك يجسدون حيويةً نابعة من داخلهم، وروحا تعكس علاقة جميلة فيما بينهم. من الصعب المبالغة في تأكيد أهمية المبادرة والحيوية وروح الجماعة ووجود حيز حر في أي عمل تطوعي، إذا أردنا أن يسهم في بناء العالم الداخلي للأشخاص وفي جدل النسيج في المجتمع.
ربما يكون من المفيد هنا الإسهاب بعض الشيء حول أهمية الروح والإدراك. سأبدأ بالروح. أحد ما يميز العصر الحديث (العصر الصناعي التقني) هو تحويل روح الأشياء إلى أصنام لا حياة فيها ولا إلهام، عن طريق إنشاء بنى وهياكل تفتقر إلى علاقات حيّة، ويتم ذلك عادة عن طريق احتكار المؤسسات والمهنيين للمجال الذي يدّعون أنهم خبراء فيه ويمنع أي عمل في ذلك المجال خارجهم. فالتعلم، مثلا، الذي هو روح الحياة (والذي مثل التنفس يحدث بشكل طبيعي) تحوّل في العصر الحديث إلى أصنام: صنم المؤسسة (حيث تحولت قيمة الشخص مما يحسنه إلى سمعة المؤسسة التي ينتمي إليها)، وصنم التوجيهي (والذي يحتكر المعيار حيث تحدد نتيجته المقياس الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، لقيمة الطالب والمعلم والمدرسة)، وصنم المنهاج (الذي يحتكر المعرفة ويستبدل الحياة والأدب والثقافة والتعابير الحضارية بكتب مقررة)… وكذلك الحال بالنسبة لمجالات الحياة الأخرى، فمثلا تحولت روح السياسة من مشاركة الناس في إدارة شؤونهم وتكوين معانيهم وفهمهم إلى صنم الديمقراطية المتمثل بإدلاء الصوت يوم الاقتراع لأشخاص لا يفرقهم عادة أي شيء حقيقي، كما تحولت روح الدين من التقوى والمحبة والمعاملة الحسنة إلى صنم الطقوس الشكلية، وتحوّلت روح التطبيب من الاهتمام بالصحة إلى صنمية الآلات التكنولوجية وتعاطي الأدوية بشكل مخيف، وتحولت الحكمة من روح البحث المستقل عن المعنى والحقيقة إلى صنم العلوم المحصورة بما يمكن تمويله، وتحول روح الإعلام من المساهمة في رسم صورة أصدق عن الواقع في أذهان الناس إلى تشويه تلك الصورة بالذات، وتحولت روح المحاماة من الدفاع عن المظلومين إلى تبرير الظلم ما دام الظالم يملك المال والجاه والسلطة … … بالطبع، هناك أشخاص في شتى المجالات يعملون بأمانة وعطاء وإبداع، ولكني أتكلم هنا عن المؤسسات والمنيين بشكل عام. ذكرت هذه الأمثلة ببعض الإسهاب لأني آمل أن لا يحصل مثل هذا للعمل التطوعي. أرجو أن نعمل سويا لحماية العمل التطوعي من أن يصبح مؤسسة (سأعود إلى هذه النقطة لاحقا لتوضيحها). العمل التطوعي هو من الأفكار القليلة التي بقيت بمثابة حيز للناس يعملون ويفكرون ويتعاملون فيه دون ضرورة أخذ إذن من أحد، أو قيمة من أحد، أو جوائز أو رموز، أي بمثابة حيّز خارج تدخل المؤسسات ورجال المؤسسات. من الضروري حماية روح العمل التطوعي من أن يتحول هو الآخر إلى صنم، حيث يُنظَر إليه بشكل مجرد وكأن له قيمة مطلقة. من الضروري النظر إليه ضمن السياق وضمن الإدراك والرؤيا التي يعمل ضمنها الأشخاص.
الصراع عبر التاريخ كان بين الإنسان والمجتمعات والحضارات والثقافات من جهة وبين من يحاول تمزيقهم وقهرهم ونهب خيراتهم وطمس مقوماتهم والسيطرة عليهم وإفقارهم بدافع الجشع من جهة أخرى. ويتمثل هذا الصراع في الوقت الحاضر بين عصابات الجشع والاستهلاك الضخمة (المعروفة باسم المنظمات المتعددة الجنسيات التي لا تشبع) من جهة، وبين شعوب العالم قاطبة من الجهة الأخرى (بما فيهم شعوب أوروبا وأمريكا الشمالية، فهم أيضا – وربما بمقدار أكبر – ضحايا لنمط الاستهلاك السائد الذي يستهلك الأطفال وفقه مقادير هائلة من الجنك يوميا، سواء في مجال الطعام أو الشراب أو الترفيه أو العلاقات أو …). في عالم الاستهلاك تتخدّر الشعوب على أكثر من صعيد، أغلبنا مثلا يعترض على وجود صورة الملك أو الرئيس في كل مكان، بينما لا نلاحظ صورة رجل المارلبورو التي طغت على كل الملوك والرؤساء، ولا نلاحظ أن الضرر الذي أحدثه رجل المارلبورو (من حيث صحة الأطفال والشباب، وأيضا الاقتصاد) يفوق أضعافا مضاعفة الضرر الذي سبّبه أعتى الطغاة. [من الجدير ذكره في هذا المضمار بحث أجراه صديق لي، ركان محمود، من مخيم الحصن في الأردن في العام 1993 مع أصدقاء له حول ما يصرفه سكان المخيم على السجاير. دفعهم إلى ذلك محاولتهم إيجاد تمويل لمشروع كانوا يرغبون إقامته في المخيم للأطفال، وعندما فشلوا في تأمين المبلغ، خطر على بال أحدهم أن ينظروا في المبلغ الذي يصرفه سكان المخيم على التدخين. كان عدد سكان المخيم في حينه 35 ألف شخص. ذهلوا لدى حسابهم للمبلغ، إذ كان أقل تقدير له هو مليونا دولار في السنة! قاموا بعدها بمحاولة توضيح بأن المشكلة والحل موجودان إلى حد بعيد في أيدي سكان المخيم. عندما ذكرت ذلك لصديق آخر كان يعمل في جامعة بيرزيت (آلان شحادة) قام بحساب ما يصرفه طلبة الجامعة على التدخين ووجد أن المبلغ الذي يُصرف هو 5و1 مليون دولار في السنة على أقل تقدير! هذه المبالغ تشمل فقط التدخين، فما بالك إذا أضفنا إليها ما يصرف على الكولا والتشيبس والجنك على اختلاف أنواعه؟ من الواضح إذن أن جزءا ليس بالصغير من المشكلة موجود في نمط الاستهلاك وبالتالي أن جزءا لا يستهان به من الحل موجود أيضا في أيدينا. والانتفاضة الأولى فيها ما يكفي لإلهام العالم في هذا المضمار.]
يقودنا ما سبق إلى الموضوع الآخر الذي أود الإسهاب فيه: أهمية الإدراك، إدراكنا لأنفسنا ولعلاقتنا بالعالم وللأمور من حولنا. أما بالنسبة لموضوع العمل التطوعي، فإن إدراكنا للأمور إما أن يخدم نمط الاستهلاك في العيش، أو أن يساهم في بناء العالم الداخلي للأشخاص وفي جدل نسيج في المجتمع.
سأختار مثالا من الحياة البيتية لتوضيح الفرق بين الإدراكين. إذا قام الأب والأم بتوصيل أطفالهم إلى المدرسة وإحضارهم منها وثم مساعدتهم في الفروض المدرسية في البيت، وإذا كان المحور الرئيسي للحديث والعلاقة فيما بينهم وبين أطفالهم هو العلامات والمنافسات في المدرسة الخ، فإن ذلك مثال لعمل تطوعي يخدم نمط الاستهلاك في العيش على أكمل وجه ويمزق العالم الداخلي للأطفال والوالدين والنسيج فيما بينهم، أي يمزق روح العائلة. في المقابل، إذا لعب الأب والأم مع أطفالهم وقاما بأعمال تساعد في بناء علاقة جميلة وحيوية فيما بينهم (مثل المشي ومثل الطبخ أو الزراعة معا ومثل التحادث حول مواضيع تبعث على الاستمتاع وتحليق الخيال ومثل الغناء أو العزف بهدف الاستمتاع معا أو الدراما وتقليد الآخرين أو القراءة بمختلف أشكالها…)، فإن ذلك عمل تطوعي يساعد في بناء العالم الداخلي للأشخاص وفي جدل نسيج روحي تعبيري اجتماعي فيما بينهم. مثال آخر: أن يتطوع شخص لتعليم ميثاق حقوق الطفل بطريقة تتعامل مع الميثاق كصنم، فإن ذلك يخدم عالم الاستهلاك، بينما إذا جسّد الجو والتعامل مع الأطفال احترام التنوع فيهم بحيث لا تجري مقارنتهم بعضهم ببعض، فإن ذلك يسهم في جدل نسيج فيما بينهم. بعبارة أخرى، شتان بين تعليم الميثاق والذي يتوافق مع النظرة إلى الناس على أنهم قاصرون وبين الإصغاء لأطفال والمبني على أن لديهم شيئا يشاركوا الآخرين به، وبالتالي يشكل أساسا من أهم الأسس التي تساعد في نموهم السليم.
ربما يكون من الهام توضيح مفهوم مؤسسة لأني استعملته في أكثر من موقع. باختصار شديد، أستعمل كلمة مؤسسة في أي وضع تحكمه أربعة أمور على الأقل: (1) احتكار العمل الذي تدعي المؤسسة أنه من اختصاصها بحيث لا يُسمح القيام بمثل ذلك العمل خارجها، وتمثل الكلمات والمصطلحات ومعانيها جزءا هاما جدا من هذا الاحتكار، (2) معايير ومقاييس تدعي الموضوعية والعالمية، وتقيس (كأحد الأمور) مدى التزام الشخص بالمصطلحات والمعاني المسموح بها كما تقيس مقدار قيمته على خط رأسي بالمقارنة مع الآخرين، (3) الدخول في لعبة المنافسة حول جوائز ومكاسب رمزية، (4) تدريب وترخيص مهنيين لديهم السلطة للقيام بالمهام/ الخصائص الثلاثة الأولى. من هذا المنطلق وبهذا المعنى، فإن المدرسة مؤسسة بينما العائلة ليست مؤسسة، وساندويش الماكدونالدز ناتج عن مؤسسة بينما ساندويش الفلافل ليس كذلك. ومن هذا المنطلق أيضا، فإن العمل التطوعي يمكن أن يكون حيزا حرا أو أن يكون مؤسسة. هذا لا يعني أننا لا نحتاج إلى مؤسسات وإنما يعني عدم احتكار المؤسسات لكل مناحي الحياة، إذ أن إبقاء مساحات شاسعة للعمل والتفكير والتعبير هو أمر حيوي.
هناك كلمات أخرى تبدو لأول وهلة وكأنها بريئة، ولكنها مرتبطة بالنمط الاستهلاكي في الفكر والعيش والإدراك، وقد شاعت مع عصر التنمية (أي منذ 1949)، ومن بينها خدمات وحاجات، وهي كلمات لم نستعملها في العمل التطوعي خلال السبعينات ولم تُستعمل في مخيم شاتيلا.. لذا، من الضروري التمييز بين عمل تطوعي ينبع من تقديم خدمات وتلبية حاجات وبين عمل تطوعي ينبع من حيوية واندماج في الحياة اليومية، ويساهم في بناء العالم الداخلي للأشخاص وجدل نسيج فيما بينهم. فمفهوم الخدمة يتطلب وجود "زبائن" ووجود مؤسسات ومهنيين يقومون بالخدمة، بعكس مفهوم البناء الداخلي للإنسان وجدل نسيج مجتمعي. الخدمة تركز على الإنجاز الذي يتم عادة باتجاه واحد بينما جدل نسيج يتطلب بالضرورة عطاء تبادليا واستمتاعا جماعيا وعلاقات متكافئة ومغذّية لجميع الأطراف. فمثلا، يمكن النظر إلى الكبار في السن على أنهم يحتاجون إلى مساعدة فقط، كما يمكن النظر إليهم أيضا كمصادر لقصص وتاريخ وتجارب وخبرات، وبالتالي يمكن أن يتطوعوا كحكواتيين، أو إذا كان صوت أحدهم جميل ويقرأ بوضوح، من الممكن أن يسجل كتبا على أشرطة يمكن استعمالها لمكفوفين أو لأشخاص لا يعرفون القراءة. هذا لا يعني عدم أهمية قيام الناس بخلق أجواء تريح وتسعد الكبار في السن… ضمن هذا التوجه، من الهام التمييز بين حاجة وحق. إن التركيز على أن الماء حاجة يخدم عالم الاستهلاك، فالحاجة تتطلب إيجاد مؤسسات (شركات) من أجل تلبيتها، مما يعني عمليا تلبية الحاجة لنسبة ضئيلة من السكان، بينما الأغلبية تبقى عطشى للماء النقي. في المقابل، فإن التركيز على أن الماء حق يعني منع الاتجار بها إذ تكون عندها ملكا للناس…
هناك أسئلة يمكن أن تساعد في توضيح إدراكنا للأعمال التطوعية التي نقوم بها، وهذه الأسئلة تشمل: ماذا أعطي من نفسي؟ وكيف ينسج (أو يمزّق) عملي العلاقات بين الأشخاص؟ هل أبني على ما هو ناقص أم على ما هو متوفر من مقوّمات وموارد؟ هل منطلقي وقناعتي هما الإيمان بالناس (بمعنى أن الناس بوجه عام دائما على حق وأنهم قادرون على إيجاد حلول) أو أنني أعتبرهم قاصرين وغير قادرين على حلّ مشاكلهم لوحدهم وإدارة شؤونهم بأنفسهم دون مساعدة ولذا فهم بحاجة إلى أوصياء ومؤسسات ومهنيين بشكل دائم لإنقاذهم وحل مشاكلهم؟
بعض الأمثلة:
من الصعب، بل ربما من المستحيل، إيجاد بديل للحيوية وجدل نسيج روحي بين الناس وبناء علاقة مع الأرض، والتي تحصل جميعا من خلال أعمال تطوعية تجمع أناسا من مختلف الأعمار والخلفيات ليعملوا معا في الطبيعة، مثل قطف الزيتون أو الزراعة …. إلى جانب ذلك، توجد فرص ومجالات عديدة لأعمال تطوعية تساهم في بناء العالم الداخلي للأشخاص وفي جدل النسيج في المجتمع، وتتعارض مع نمط الاستهلاك. فيما يلي أطرح بعض الأفكار الأولية (والتي يمكن الإسهاب فيها مع من يرغب):
1.
يمكن أن يقوم شباب قرية تعاني من قلة المياه في الصيف بحفر حفرة كبيرة لتجميع المياه في فصل الشتاء واستعمالها للزراعة في فصل الصيف.
2.
تجميع قصص الناس من خلال مقابلات (مدة كل منها مثلا ثلاثون دقيقة)، مقابلة صديق أو قريب أو جار أو صاحب دكان يتعامل معه الشخص أو عامل نظافة…. يمكن الترتيب مع مؤسسات (وهذا مثال جميل لدور يمكن أن تقوم به المؤسسات دون تمزيق الأشخاص من الداخل أو تمزيق النسيج في المجتمع) للتعاون في هذا العمل، سواء من حيث منهجية إجراء مقابلات أو توفير أجهزة أو حفظ المقابلات في أرشيفات ملائمة أو بثها على الهواء بالاتفاق مع أحد محطات الإرسال المحلية. [تصوروا لو فعلنا ذلك خلال السبعينات (في الحقيقة بدأنا بذلك ولكن لسبب ما لم نكمل)، وخلال السنين الأولى من الانتفاضة الأولى، وخلال الفترة الحالية.] فمثل هذا العمل يستبدل القصص الجاهزة وقصص المسلسلات التلفزيونية، كما أنه عمل يقلب الأمور حيث يكتشف الناس أن قصصهم لها من المعنى أكثر من قصص المشاهير والنجوم ومجرمي الحروب. تشكل هذه القصص أساسا لبناء الفرد من الداخل كما تشكل خيوطا أقوى من الحرير لنسيج مجتمعي. بالإضافة إلى ذلك، فإن مثل هذه القصص تشكل مادة "دسمة" لبناء فكر أصيل. [من المناسب قراءة كتب روان وديمة الضامن كأمثلة ملهمة.]
3.
التطوع في حملة القراءة (يمكن الاستفسار عن هذا من مؤسسة تامر).
4. الإصغاء للأطفال (نعتقد عادة أن أفضل طريقة لتربية الأطفال هو إرشادهم أو إعطاءهم معلومات ومهارات، وننسى كما يظهر أن من أكثر ما يرغب فيه الأطفال هو شخص أكبر سنا يصغي بكل اهتمام إلى ما يرغبون التعبير عنه).
5.
إجراء أبحاث مثل البحث الذي أجراه ركان محمود وأصدقاؤه في مخيم الحصن والمذكور سابقا.
6.
التعليم الشعبي (وهناك قصص يمكن الاستلهام بها).
7.
إصدار نشرات أو فيديوهات حول مبادرات يقوم بها الناس، خاصة الشباب.
8.
تسجيل قصص الكبار في السن على فيديوهات.
9. … …
* * *
يمكن تلخيص ما أود التأكيد عليه، بناء على ما سبق، بالنسبة للعمل التطوعي في فلسطين في المرحلة الحالية والمستقبلية بما يلي:
·أهمية روح المبادرة والحيوية والروح الجماعية،
وأشمل في استعمالي لتعبير الحيوية عيش الآلام والمآسي التي هي جزء من الحياة.
·أهمية أن الدافع للعمل نابع من داخل الشخص ومن إصغائه للواقع.
·أهمية وجود متعة ومعنى في العمل.
·أهمية وعي متى يخدم عملنا النمط الاستهلاكي وتجنب ذلك، والنظر فيما إذا يساهم العمل في بناء معانٍ وفكر وفهم، وفي جدل نسيج اجتماعي روحي فكري ثقافي تعبيري فني، وعلاقات جميلة بين الناس.
كما أود في إعادة تأكيد رغبتين:
الأولى، آمل أن لا يتحول العمل التطوعي إلى أقفاص مثل ما حصل للتعليم، حيث يتكوّن جهاز يجيز ويمنع، وحيث يصبح من الضروري الحصول على موافقة مسبقة. من الضروري أن لا يُسلب الناس من دورهم وحريتهم، وأن لا نحاول التوصل باسم الوحدة الوطنية إلى مفهوم واحد ورؤيا واحدة واستراتيجية واحدة؛
والثانية، تجميع قصص من عملوا في فترة السبعينات في أعمال تطوعية، وذلك كجزء هام من التاريخ الفلسطيني. إن تجميع القصص ليس فقط للذكرى وإنما للمساهمة في توضيح أمور تتعلق بمفهومنا وإدراكنا للعمل التطوعي، بما في ذلك إدراكنا للعمل التعاوني في الجامعات والمدارس والمؤسسات الاجتماعية.
ربما يقول البعض أنه بالكاد يوجد لديهم وقت للعمل بهدف تأمين قوتهم وقوت أطفالهم، فالتطوع غير وارد. وهذا بلا شك صحيح بالنسبة لعدد كبير من الناس، ولكن ماذا عن الساعات الطويلة التي يقضيها عديدون أمام التلفزيون يوميا؟ …
مؤتمر العمل التطوعي 22-23 كانون الأول
2003
رام الله – فلسطين
منير فاشة
مدير الملتقى التربوي العربي