ما نقوم به باسم الإبداع
حين شاهدت الفتيات الثلاث الذين جاءوا من أحد المخيمات الفلسطينية ليقدموا لنا دبكة فلسطينية جميلة ومليئة بالحيوية انتابتني مشاعر متناقضة: فمن جهة كان أداؤهم جميل، وهم سعدوا بإعطائهم هذه الفرصة ليقدموا لنا صورة من هذا الفن الذي لا يعبر فقط عن فنيته بل عن هوية تناضل من أجل البقاء والعودة... لكن، ومن جهة أخرى، كنا نحن المتفرجين "كالمستشرقين" فيعرض أمامنا هذا العمل ونصفق لهم ونقول "ما أجملهن" "ما أشطرهن" "كم هي جميلة الدبكة الشعبية" الخ... القسم الثاني من هذه الجهة الثانية هي في الطريقة التي أدوا فيها الدبكة والتي ذكرتني بيوم زرت فيه أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان وتحدثت مع الفتيات اللواتي يؤدين الدبكة الشعبية وحاولت أن أنقل لهن بعض ما أعرفه من الدبكة الشعبية فلم أنجح، ولم ننجح معا، لماذا؟
فكرت في ذلك كثيرا، ووصلت إلى الاستنتاج التالي: لقد تعلمت الدبكة في سياق طبيعي في فلسطين، وتحديدا في مدينتي رام الله والبيرة، في الأعراس... وكان الشباب طبعا هم الذين يدبكون في الشارع وكنا نحن نتفرج.. وحين قررنا أن نشكل فرقة دبكة للبنات في المدرسة، وكان عمري حينها 14 سنة، طلبنا من أحد الشباب من معارفنا أن يدربنا... وهكذا تم... ولم يكن هو "معلما" محترفا للدبكة، كان "لويح" أي الشاب الذي يقود الدبكة.. وفي السهرة أو العرس لم يكن اختيار هذا الشاب بطريقة ديمقراطية أو تقوم لجنة بالاختيار بين مجموعة من الشباب، كان بشكل تلقائي يقود المجموعة وهو أكثر من "يرتجل" في الدبكة.. أي أنه لا يؤدي الحركات بدقة وإتقان، بل على العكس، فكان اللويح في كثير من الأحيان هو الأقل إتقانا لكن الأكثر إبداعا في دمج الحركات وأدائها.. وكثيرا ما يتناوب الشباب على قيادة المجموعة دون الحاجة إلى تنسيق مسبق... وهكذا.. فبالنسبة لنا كانت الدبكة هي "لغة" و"مفردات" نتعلمها ومن ثم لنا مطلق الحرية في تشكيلها كما نرغب، فكنا نخترع التشكيلات الحركية على المسرح، وندمج بعض الحركات، ونغير من شكلها، وهكذا... لم يكن هناك من يقول لنا هذا صح وهذا غلط أو هذا يجوز وهذا لا يجوز أو عبروا بهذا الشكل أو ذاك.. كبرنا ونحن نعتبر أن الدبكة هي لغة ثانية، بالضبط كاللغة العربية، وهي لغتنا الخاصة جدا.
وفي الدبكة لم نكن نتحدث عن "تحرير المرأة" و"مساواة المرأة بالرجل" بل كان ذلك جزءا أساسيا من العمل: فبالطبع كنا سويا في الدبكة، وكان هناك بعض الرقصات للبنات فقط، وبعضها للرجال فقط، وبعضها مشترك، ولم يكن ذلك بالضرورة مقسم حسب التقسيم التقليدي: فكانت الفتيات تشارك في رقصات الحرب، وكان الشباب يشاركون في رقصات الحب...
حين راقبت الفتيات الصغار وهن يدبكن تذكرت تلك الفتيات اللواتي رأيتهن في مخيم شاتيلا، إذ كانوا يحفظون الحركات والتشكيلات عن ظهر قلب: لا يحفظونها كمفردات يمكنهم تشكيلها كيفما يرتأون، بل كتشكيلات جاهزة يؤدونها بالضبط كما هي، وكانت الدقة متناهية في الأداء، لدرجة تقتل الإبداع... ففي اللحظة التي كانت الفتيات تبدأ فيها بالدبكة كانت تختفي شخصية كل واحدة منهن وكنت أرى صورة "المدرب" فيهن مع أنني لم أتعرف عليه أبدا. مع هذا، فإن المدرب والمؤسسات المختلفة يعتبرون أن "الدبكة" هي عمل فني إبداعي، فكيف إذا يقتل الإبداع؟
هذا ما توصلت إليه بناء على هذه الملاحظات وغيرها... ما يحدث الآن من هبة في التعليم (مصدرها الهبة نحو التنمية) ل "تعليم الإبداع" و"تعليم الفنون" لا يتعدى محاولة "تطبيع" وخنق الفنون داخل صومعة نظام تعليمي يخنق الإبداع باسم الإبداع. فالفنان يتحول إلى معلم لكي يكسب قوت يومه، ولا يعود بقدرته أن "يبدع" بل أن "ينقل" معرفته إلى الطلاب.. وحين يصبح الفن "معرفة" لا يعود إبداعا، حتى لو كان فنا في الأصل.
المثال الثاني الذي رأيته مباشرة بعد اللقاء كان في ورشات "سبك حكاية" في الأردن والتي قامت بها أسماء أغزناي، وهي إحدى المشاركات في اللقاء. فرغم أن الفكرة جميلة ومتميزة ألا وهي استخدام الحكايات الشعبية في غرفة الصف لكي تقوم الطالبات بسبك وصياغة حكايات شعبية جديدة لكن حسب النمط القديم، إلا أنها في التنفيذ داخل غرفة الصف لم تعد أمرا إبداعيا. إذ على الطالبات خلال 6 أيام أن يقوموا بإبداع قصة تراثية بشكل جماعي. كيف سيتم اتخاذ "القرارات"؟ تقوم المعلمة بذلك. واعتبر المعلمون المراقبون في الورشة بأن الطلب من الطالبات بأن يقوموا باقتراح أحداث مختلفة هو بحد ذاته مشاركة منهم وإبداع، بينما في النهاية كانت القصة من تأليف أسماء ولكن بوحي واقتراحات من الطالبات. إذا، ما كان من الممكن أن يكون فرصة للاستكشاف والبناء والإبداع دخل في قالب أكاديمي صفي ففقد معناه الإبداعي وفقد قدرته على تشجيع الإبداع.
القضية الجوهرية التي أطرحها هنا، وآمل أن يكون هناك فرصة للحوار والتعمق حولها، هي كيف يمكن أن يتعلم الأطفال والشباب الفنون باستخدام أساليب مختلفة عن الأسلوب التقليدي في التعليم؟ كيف يمكن ان ننقذ الفنون من موضة "التنمية" و "التدريب"؟ وكيف يمكن ان نعيد خلق سياق طبيعي لهذا التعلم يتيح المجال للمتعلمين، صغارا أو كبارا، أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم أمام الإبداع الكامن في داخلهم بدلا من ان يتعلموا تقنيات حرفية؟
الأسئلة الأخرى المرتبطة بهذا السؤال هي:
1.
ما هي إمكانية العودة إلى أسلوب "مجاورة المعلم" أو apprenticeship بحيث يكون المعلم/ة هو/هي الشخص الذي يتقن عمله ويمتهنه، أي يعتاش منه؟؟
2.
كيف يمكننا التخلص من الأنماط stereotypes التي تمنع أو تحد من التعبير التلقائي والطبيعي عن التجارب الذاتية، ومن ضمنها نموذج المؤسسة الذي ما أن يدخله الشخص حتى يصبح "مؤطرا" بشكل يتحول معه تعبيره الطبيعي إلى تعبير مصطنع ومنقول.
3.
كيف يمكن/هل يمكن تشكيل مؤسسة (غير ديمقراطية وغير دكتاتورية وغير فوضوية) داعمة لقيم أساسية مثل الاحترام، الصدق، التنوع، العمل الجماعي، الإبداع، الحرية؟؟ والمؤسسة ليست فقط المدرسة بل العائلة والمؤسسة التي نعمل بها والمجتمع والدولة والنادي..
سيرين حليلة
5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003