اللقاء السنوي الرابع ل"الملتقى التربوي العربي" :
"مبادرات ملهمة في تعلّم اللغة العربية"
[نيسان/ إبريل 28 - أيار/ مايو1 2002]
أكادير – المغرب
رحلتي مع اللغة والتعلّم
[ملاحظة: تعكس مساهمتي هذه قناعات نمت وتبلورت في ذهني عبر ما يزيد عن ربع قرن، وذلك من خلال عملي وتأملي في موضوع التعليم والتعلم وموقع اللغة منهما. أعرضها كجزء من النقاش حول موضوع اللغة في اللقاء الرابع "للملتقى"، إذ أن أحد أغراض هذه اللقاءات هو توسيع مداركنا من خلال التعرف على وجهات نظر مختلفة يعرضها المشاركون، نابعة من خبراتهم وتأملاتهم. وتركز المساهمة على قضيتين: الأولى، قصور اللغة وسهولة الهيمنة على العقول من خلالها، والثانية، أهمية التأمل والتعبير، رغم القصور، في حمايتنا من تلك الهيمنة. وقد زادت أهمية هذه الأبعاد بعد أحداث 11 سبتمبر. كما سأذكر باختصار شديد جذور هذه الهيمنة، ومشروعين يشكل التأمل والتعبير فيهما جزءا أساسيا.]
بدأت علاقتي مع اللغة وموقع اللغة من التعلم، بشكل واع، خلال عقد السبعينات، من خلال اندماجي في العمل التطوعي والتأمل فيما كنا نقوم به من أعمال والتعبير عن ذلك ونشره في الصحف المحلية، ومن خلال عملي كموجه مركزي للرياضيات في مدارس الضفة الغربية. كانت تلك التأملات والخواطر أول عهد لي بالكتابة وبداية بلورة فكري وعملي حول التأمل والتعبير ودورهما في التعلم. بدأت أعي أن اللغة هي المفتاح وهي العائق. من خلال محاولاتي جعل الرياضيات أكثر معنى وجدوى وجدت نفسي أسأل نفسي وأسأل الطلبة والمعلمين والمعلمات من حولي، أسئلة لم أسألها من قبل، مثل: ما معنى 1=1؟ وما معنى نقطة؟ وما معنى تجريد؟ وما معنى منطق وهل يوجد طفل غير منطقي؟ وكيف نسمح لأنفسنا باستعمال كلمات وتعابير مثل ذكي وراسب و"الأول" في الصف، ونسمح بالحكم على ملايين الطلبة وتقرير مصيرهم من خلال قدرتهم على حفظ كلمات فقط لا غير؟! ولماذا نعترف، بوجه عام، بنوع واحد من المعارف، وبطريق واحد لاكتسابها، ونهمل الأنواع والطرق الأخرى؟ وما هي علاقة اللغة بالمعرفة؟
أدت تلك الأسئلة في ذلك الوقت إلى تكوين مساق في الرياضيات (أسميته "الرياضيات في الاتجاه الآخر") لطلبة السنة الجامعية الأولى في كلية العلوم في جامعة بيرزيت، كان موضوع اللغة فيه أساسيا، حيث كان هناك تركيز على محاولة التعبير عما يلاحظه الطلبة من أنماط من حولهم عن طريق اللغة وربط اللغة بالمفاهيم، وعلى تكوين معان للمصطلحات نابعة من خبراتهم. كان ذلك في العام 1979.
إلا أن الحدث الذي كان له الأثر الأكبر في حياتي في تلك الفترة، وما يزال، والذي جعلني أعيد النظر في كثير من المفاهيم والقناعات والمعاني والمدارك والممارسات السائدة وبوجه خاص علاقة اللغة بالمعرفة، هو وعيي بأن استيعاب أمي الأمية للرياضيات أعمق من استيعابي لها على كل المستويات ما عدا المستوى اللغوي الرمزي! جعلني ذلك الوعي أتساءل عن كثير مما تعلمته في المدرسة والجامعة وعن كثير من الفرضيات السائدة، مثل الاعتقاد بأن التعلم لا يحدث إلا من خلال مؤسسات ومهنيين، وأن الأمي إنسان جاهل أو ناقص، والاعتقاد بأن المعرفة مرتبطة باللغة، وبشكل خاص بالنصوص المكتوبة. بدأت عندها أتساءل حول ما نعتبره معرفة وما لا نعتبره، ومن نعتبره عارفا ومن نعتبره جاهلا.
في العام 1981 ذهبت إلى جامعة هارفارد لمتابعة الدراسة، ولأول مرة لمست عمق الزيف في البناء الفكري الغربي، والأمريكي بالذات، ودور اللغة والمعاني والمعايير والمقاييس السائدة في عملية الزيف تلك (والمرتبطة جميعا بقيم الفردية والاستهلاك والسيطرة والفوز على الآخرين). ووعيت بشكل واضح أن هيمنة ذلك النموذج مرتبطة بالتركيز على المهارات التكنيكالية وبهيمنة اللغة، ولا أعني بذلك هيمنة اللغة الإنكليزية وإنما هيمنة اللغة على الفكر والمعرفة والإدراك والحياة، عن طريق احتكار اختيار المصطلحات والمعاني والمعايير. وقد اكتشف الصينيون هذه الحقيقة قبل ثلاثة آلاف عام في قولهم "من يُعرِّف الكلمات يكسب الحجج". ربما يكون مفهوم الاجتهاد في الإسلام من أروع المفاهيم في حماية الناس من مثل هذه الهيمنة، إذ يرتكز على حق ومسؤولية كل شخص في وضع جهد لربط المعاني بخبرات الشخص والواقع من حوله. بدأت أعي أن هيمنة اللغة على العقول تتم عن طريق التنازل عن حقنا في الاجتهاد في فهم ما يجري وإعطاء ذلك الحق للمؤسسات والمهنيين ليفكروا عنا. لهذا القول أبعاد هامة في مجال التعليم، سأتكلم عنها في أكادير إذا رغب البعض في ذلك.
بدأ ينمو في داخلي سؤالان: ما هي جذور هيمنة اللغة بشكلها المعاصر؟ وما معنى أن نتعلم؟ ركّزت جهدي على السؤال الثاني، لأنني لم أعرف عندئذ كيف أجد جوابا للأول (والذي سأعود إليه لاحقا).
كانت الانتفاضة الأولى عام 1987 هي الحدث الذي فتح آفاق جديدة في ذهني بمعنى القيام بتعليم يكون أكثر تجاوبا وتناسقا مع الظروف المحيطة ومع ما هو متوفر في الحضارة والمجتمع. حاولت ذلك عن طريق جامعة بيرزيت ولكني اكتشفت أن هناك سقفا لا تتعداه الجامعات أينما كانت. كانت الانتفاضة الحدث الذي أخرجني من العالم الأكاديمي وأدخلني في تفاعل مباشر مع الناس والمجتمع. استقلت من الجامعة عام 1989 وأنشأت "مؤسسة تامر" والتي كانت فلسفتها تدور حول استعادة التعلم بعد أن صادره التعليم. وكنت قد توصلت خلال الخمس عشرة سنة التي سبقت الانتفاضة إلى بعض القناعات المتعلقة بالتعلم، والتي استندت عليها في إنشاء المؤسسة.
كان التأمل والتعبير، كما ذكرت، قد بدآ يأخذان الحيز الأكبر في فكري وعملي منذ منتصف عقد السبعينات، وكانا بعدين أساسيين في المشروعين اللذين تبلورا في ذهني عندما كنت أستاذا زائرا في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد عام 1998/97 وهما "الملتقى التربوي العربي" و"قلب الأمور".
* * *
سأعرض بإيجاز بعض القناعات المتعلقة باللغة، والتي هي نتاج خبرات وتأملات عبر تلك الفترة.
للغة، أي لغة، بطبيعتها قاصرة عن أن تعكس التنوع والغنى الهائلين الموجودين في حياة الناس والمجتمعات. لا توجد، ولا يمكن أن توجد، لغة غنية بما فيه الكفاية بحيث تستطيع أن تعبّر عن (أو حتى أن تقترب من) التنوع الهائل في الخبرات والمعاني. هذه حقيقة غالبا ما نهملها أو لا نعيها في عملنا في حقل التعليم. ولكن الاستمرار في إهمالها يعني أننا سنستمر في النظر إلى اللغة والتعامل معها وكأنها المصدر والمكوّن الرئيسي للمعرفة، وسنستمر بالتركيز على اللغة في محاولاتنا إصلاح التعليم (مثل تغيير المناهج والكتب المقررة وتدريب المعلمين عليها)، وبالتالي سنستمر في تعميق المشكلة والشعور بالإحباط. من هنا فإن أية محاولة لتحسين التعليم، بحيث تبقيه سجينا للغة، هي محاولة تشبه بناء قصور في الهواء، محكوم عليها بالفشل مسبقا، إذا كان مقياسنا أغلبية الطلبة.
سأختار مثالين، الأول لتوضيح قصور اللغة في التعبير عن التنوع الهائل في الحياة، والثاني لتوضيح مدى قدرة اللغة (إذا سُلخت عن الحياة) في السيطرة على العقول وتشويه الواقع.
يرتبط المثال الأول بكلمة انتبهت لها عندما كان حفيدي في الرابعة من العمر. لاحظت أنه اكتشف في ذلك العمر المبكّر، وبدون تدريس ومناهج وامتحانات، أن كلمة بسيطة مثل "لا" لها من المعاني عدد يكاد يقترب من عدد الأشخاص الذين يتعامل معهم! اكتشف، مثلا، أنه عندما يقول له أبوه "لا" فإنها تعني أن لا يحاول مرة أخرى، بينما إذا استعملت جدته كلمة "لا" فإن المعنى يكون أكثر مرونة. كما اكتشف أن معناها يختلف عندما أستعملها أنا أو عندما تستعملها أمّه. فإذا كانت اللغة قاصرة عن أن تعكس الغنى والتنوع في حياة الناس وفي علاقاتهم ومفاهيمهم وتصرفاتهم في قضية بسيطة مثل كلمة لا، فما بالكم بالنسبة لكلمات مثل الديمقراطية والقومية والحقوق والمساواة والصداقة والهوية والانتماء والمعرفة والعلوم، وكل الكلمات تقريبا التي نستعملها في المؤسسة التعليمية مثل ناجح وراسب ومتعلم وجاهل وعارف وفاهم؟ عندما كنت مثلا أسمع شخصا يقول "أنا لا أفهم شيئا في الرياضيات" كنت أقول له "كيف تقول هذا وقد عشت ثلاثين سنة تستعمل فيها الرياضيات كل يوم مئات المرات؟!" من الواضح أن عبارته تعكس أنه ضحية الكلمات والمعاني المستعملة، فهو، مثل معظم الناس، لا يعتبر أن المفاهيم الرياضية التي يستعملها الناس يوميا هي رياضيات، وذلك لأنها لا تشبه ما في الكتب المدرسية، والتي تحتكر المصطلح والمعنى!
أما المثال الثاني فيرتبط بكلمة شاعت بشكل واسع خلال الخمسين سنة الفائتة وأدت إلى تشويش وتشويه للفكر وطمس للبدائل وتخريب للطبيعة وتدمير للمجتمعات، ربما يكون من الصعب جدا استرداد ما دمرته، ألا وهي كلمة "التنمية". [أود أن أؤكد أني أتكلم هنا عن النزعة الرئيسية لآثار التنمية وليس عن الحالات التي لعبت فيها التنمية دورا إيجابيا، وهي قليلة ومحدودة جدا.] لعل أشهر وأخطر الأمثلة في عصرنا الحاضر على حشر أعداد هائلة من الناس ضمن تصنيف واحد، بين ليلة وضحاها، كان الحكم الذي أ طلقه "ترومان" عام 1949 (وكان رئيس الولايات المتحدة عندئذ) على الأغلبية الساحقة في العالم إذ وصفها ب"غير نامية" وأنها بحاجة إلى الدول الغربية لتنميتها!! الغنى والتنوع والتاريخ الموجودة جميعا في الهند والصين ومصر وأفريقيا والمكسيك وأمريكا الجنوبية – كلها تُلغى عبر كلمة، وتُحشَر الشعوب في جميع هذه المناطق ضمن تصنيف واحد! ربما لم يعرف التاريخ مثالا أكثر احتقارا للتنوع في الخبرة الإنسانية وتحقيرا للبشر من مقارنة المجتمعات حسب معيار خطي يقسم المجتمعات ليس فقط إلى دول نامية وغير نامية بل ويقيس مقدار ذلك! ومما جعل الأمور أكثر سوءاً هو، أولا، أن الأغلبية في العالم قبلت بالتدريج عملية المسخ هذه بل واعتبرتها تعكس الحقيقة، وثانيا، أنه لا يوجد معنى واضح في الخطاب الرسمي لكلمة تنمية (رغم غزارة استعمالها)، وثالثا، أن منظمات دولية عديدة نشأت منذ ذلك الحين عاشت كالطفيليات على تفتيت مجتمعات كثيرة، وعلى قتل التنوع و"المناعة" الطبيعية فيها وقدرتها على النمو الذاتي، تحت شعار "التنمية". وقد لعبت اللغة دورا رئيسيا في إخفاء علاقة التنمية بالنتائج المدمرة التي أصبحت واضحة منذ عشرين سنة على الأقل. ولم يسلم من شر هذه الكلمة سوى قليلين، فقد رفع لواءها الرأسماليون والاشتراكيون والوطنيون (أمثال نهرو وعبد الناصر) والمهنيون والأكاديميون على حدّ سواء. وقد دعوت لها أنا أيضا، مثلي مثل العديدين غيري.
* * *
في فترة ما من حياتي خُدعتُ بأنه يمكن وضع ما نعرفه بواسطة اللغة والرموز، وأنه يمكن تعليم تلك المعرفة عن طريق اللغة والرموز، وأنه يمكن تقييم الطلبة عن طريق قدرتهم في استعمال اللغة والرموز! علمتني أمي (من خلال حياتها وعملها وتعاملها) أن أكون أكثر تواضعا: أن ما نعيشه ونخبره أكثر بكثير مما يمكن أن نعرفه، وأن ما نعرفه أكثر بكثير مما ندركه، وأن ما نعرفه وندركه أكثر بكثير مما يمكن أن نعبّر عنه. بعبارة أخرى، علمتني أن ما يمكن التعبير عنه هو جزء صغير جدا مما نعيشه ونخبره في حياتنا. وأننا في جميع الأحيان (ما عدا التافه منها) نعيش ونتعامل من خلال معرفتنا الجزئية هذه (أي رغم جهلنا الهائل). ولكن هذا بالضبط ما يجعل التأمل والتعبير عن هذا الجزء الصغير هاما جدا. فهو النافذة الرئيسية (رغم ضيقها) التي تسمح لنا باستخراج بعض ما هو بداخلنا لنشارك الآخرين به، وهو مظهر من مظاهر الكرم، كما تسمح للآخرين دخول أعماقنا، وهو مظهر من مظاهر الضيافة. وهذه الضيافة والكرم يشكلان حاميين رئيسيين لنا من التصنيفات والتعميمات الجاهزة.
إن التعميم والتجريد، بما في ذلك النظريات، لها ضرورات وفوائد وحاجة، ولكن إذا لم ننتبه إلى أنها لا تتعدى كونها محاولات لفهم العالم المحيط، عندها تؤدي إلى أن تكون مسخا للواقع والحقيقة، وطمسا للتنوع والغنى في حياة وخبرات الناس والمجتمعات. أي أننا نقع في الفخ الفكري الذي يساوي بين اللغة والمعرفة، بل ويعتبر اللغة أساس المعرفة والدليل عليها. ومن بين مظاهر النتائج الخطيرة للوقوع في هذا الفخ هو استعمال اللغة كوسيلة رئيسية، في العالم المعاصر، للحكم على الطلبة في الامتحانات وتحديد مقدار معرفتهم! وما يزيد الأمر سوءا أننا لا نحاول فقط حشر الحياة ضمن كلمات قاصرة وتعميمات ومفاهيم ضيقة، وإنما أيضا استبدال الحيوية في تعابير الناس بلغة معيارية (في كتب مقررة ولغة إعلامية) تفتقر إلى الحيوية والحياة، ولكن ندّعي أنها التعبير الوحيد الصحيح والمقبول، وعلى كل الأطفال أن يتعلموها ويستعملوها. نكون عندها مثل مطالبة جميع الناس أن يلبسوا نفس اللون أو أن يأكلوا نفس الوجبة، ليس فقط على مدار السنة بل على مدار الحياة. ومما يدعو للسخرية هو الادعاء بأن ما نفعله هو من أجل مصلحة الطلبة وتطويرهم!
التعميم والتجريد لا يعكسان قوة في التفكير، وإنما ضعفا في التعبير. بالرغم من ذلك، لا نستطيع أن نعيش بدونهما، ولكن من الضروري وعي قصورهما والضرر الذي يمكن أن ينجم عنهما إذا نحن أهملنا التأمل في علاقتهما بالحياة واعتقدنا بأنهما يعكسان الحقيقة.
ترتبط هيمنة اللغة بالادعاء باحتكار البعد النظري وإقناع الناس بأن عددا قليلا منهم فقط قادر عليه. فأي نظرية غير مبلورة لغويا، ضمن نظام الهيمنة السائد، لا تُعتبر في عداد النظريات المقبولة! لا أعتقد أنه من الممكن أن يعيش شخص بدون نظريات ومعارف في ذهنه، أي دون صورة ذهنية عن العالم، ناتجة عن خبراته وتفاعلاته مع من وما حوله. الفرق بين نظرية وأخرى، في أغلب الأحيان، هو فيما إذا كانت النظرية التي يهتدي بها الشخص جزءا عضويا من معرفته، أو أنها منفصلة وخارجة عن الإنسان والحياة. من الضروري استعادة الشرعية للنوع الأول، والحذر من مطبات النوع الثاني.
لو أن الأمر توقّف عند هذا الحد، لهان الأمر، فعملية استبدال التعابير الحيّة (التي يستعملها أغلب الناس) باللغة البلاستيكية التي تنشرها المؤسسات على اختلاف أنواعها، تستمر حاليا في البيوت بعد الدوام المدرسي، حيث تزيد بتسارع هائل ظاهرة قيام الأهل بتدريس أطفالهم بعد المدرسة. فبعد أن كانت البيوت مكانا للتواصل الحي بين أفراد العائلة، مثل التحادث والتسامر في الأمسيات ورواية الحكايات، أصبحت مكانا يستمر فيه نشر "عدوى" اللغة البلاستيكية، والتي تؤدي إلى محو كلماتٍ ومعانٍ من ذاكرة الناس ووعيهم، واستبدالها بكلمات ومعان لا يعيشها الناس ولا يستعملونها ولا علاقة لهم بها ولا علاقة لها بهم.
لا توجد لغة رسمية أو عالمية بحيث تكون حيّة في نفس الوقت. إذ أن اللغة الحية هي التي تنمو وتنتعش وتعيش بين أشخاص حقيقيين يتفاعلون معا في موقع حقيقي. اللغة الحية هي التي عن طريقها يقول الناس ما يعنونه ويعنون ما يقولونه، ضمن السياق الذي يتحادثون ويتفاعلون فيه. وهذا ما لا نفعله في التعليم، حيث نقول عادة ما لا نعنيه ونعني ما لا نقوله. بل الأمر أسوأ في أغلب الأحيان، إذ لا نعي ما نقوله أو لا معنى لما نقوله أو نقرأه أو نسمعه، حيث نجترّ كلمات في كتب مقررة فاقدة لكل حياة وحيوية.
أتذكّر بأسى كيف كنت أردد مثل ببغاء (ككثيرين غيري) بأن ما لا نستطيع قياسه لا يمكننا فهمه، وأن 90 % من المعرفة هو عبارة عن لغة، وما علينا إلا أن نتقنها. حاولت بيع تلك القناعات للطلبة. ثم اكتشفت أن ذلك صحيح بالنسبة للمعرفة التي تًسوّق عن طريق المدارس والجامعات والمهنيين، وهذا بالضبط يفسر عدم قدرتهم على التعامل مع الحياة، وعلى جبن المهنيين بوجه عام، فالدافع الرئيسي للمهني عادة هو مستقبله، وليس علاقة ما يقوله بالحقيقة، أو أثر ما يفعله على الطبيعة والعلاقات بين البشر.
* * *
أود أن أعود هنا إلى السؤال الذي سألته في البداية والمتعلق بجذور هيمنة اللغة في العصور الحديثة. القصة طريفة ومقلقة، أذكرها هنا باختصار. في نفس الفترة التي زار فيها كلمبس الملكة إيزابيلا وعرض عليها مشروعه لمدّ سلطانها فيما وراء البحار، زارها شخص آخر اسمه "نبريها" وعرض عليها مشروعه لبسط سلطانها على رعيتها في إسبانيا، إذ لا أساس للسيطرة على ما وراء البحار بدون السيطرة على الناس ضمن حدود بلدها. وقد أخذ معه كتابين حول لغة كان قد ركّبها بنفسه من اللغات التي كانت سائدة في زمانه: كتاب قواعد لتعليم تلك اللغة لجميع الناس، وقاموس يحدد معاني الكلمات والمصطلحات فيها. تلخّص اقتراحه، كما جاء على لسانه، في أن أكثر الطرق فعالية للسيطرة على عقول الناس، هو تعليم الناس نفس اللغة ونفس المعاني عن طريق كتب مقررة، وأشخاص يتدربون على تعليمها! كان ذلك الاقتراح قبل 500 عام هو البذرة الأولى لما نعرفه حاليا باسم التعليم والدولة الوطنية. كانت فكرة استبدال اللغات الحية والمتنوعة التي يستعملها الناس بلغة جاهزة يقوم مهنيون بتعليمها للأطفال فكرة لا إنسانية حتى لشخص متعطش للسيطرة مثل إيزابيلا، إذ رأت في ذلك قتلا لروح الناس واحتقارا للبشر ما بعده احتقار. كان على فكرة "نبريها" أن تنتظر مدة تزيد عن مائة وخمسين عاما أخرى قبل أن تتبناها فرنسا والسويد وبريطانيا، قبل أن ينتقل عدوى ذلك "الفيروس" إلى شعوب الأرض قاطبة عبر استعمارها.
* * *
سأتطرق فيما يلي إلى مشروعين كان لي دور كبير فيهما لتوضيح صراعي ضمن ذاتي حول موضوع اللغة، ألا وهما حملة القراءة في المجتمع الفلسطيني ومجلة "قلب الأمور".
من المنطلق الذي تطرقت له بأعلاه، لدي بعض التخوفات من أن نعيد مأساة التعليم من خلال حماسنا لقضايا أخرى، مثل القراءة، وذلك عن طريق اتباع نفس النمط السائد في التعليم، والذي يمكن تلخيصه بأن يمكن فصل الأمور عن بعضها وأن هناك جوابا نسعى لفرضه على جميع الناس. فالدعوة إلى القراءة كدواء شاف لجميع الناس هي دعوة لا تأخذ الواقع بعين الاعتبار. فأولا، نسبة القارئين عادة في أي مجتمع – بمعنى قراءة خمسة كتب على الأقل في السنة – لا تتعدى عادة 15 % إلى 20 % من السكان. وثانيا، معظم الناس يتعاملون مع اللغة عبر أشكال غير النص المكتوب، مثل التحادث ورواية القصص والحكايات، ومثل الخطابة والدراما والتمثيل. وثالثا، من الطبيعي أن يكون هناك أطفال لا يحبون القراءة، من الضروري احترام ذلك وعدم اعتباره نقصا أو تخلفا، فعدم القراءة ليس جريمة. من الضروري أن لا نستنج أن من لا يقرأ أو لا يعرف القراءة هو جاهل؛ أي أن نتجنب معادلة عدم القراءة بعدم المعرفة. القراءة هي إحدى الوسائل التي يمكن عن طريقها أن يبني الإنسان نسيجا مع الآخرين، ولكن هناك حاجة لتأمين أجواء ومرافق، للأطفال خاصة وللناس عامة، لتنمية ما يرتاحون له من وسائل وأشكال للتعبير والتواصل. إذا اعتبرنا التنوع قيمة قصوى نعيش بموجبها، فإنه يتوجب علينا أن نسلك طريقا لا يطالب بنفس الشيء للجميع (مهما بدا جذابا)، لأن في ذلك عدم احترام للناس وللتنوع في الحياة والمجتمعات.
بعبارة أخرى، من الضروري أن لا تصبح النصوص المكتوبة مصدر الحياة أو بديلا عنها. بل الأمر أسوأ من ذلك عادة، إذ تصبح النصوص المكتوبة في كثير من الأحيان أكثر حقيقة من الحياة نفسها: تصبح المصدر والمرجع والمعيار! من الضروري أن نتجنب أن تصبح القراءة مظهرا آخر من مظاهر الاستهلاك، وذلك، مثلا، عن طريق أن تشمل أية حملة أو دعوة للقراءة وسائل وفسح للتعبير والتحادث كعناصر ملازمة لها، كما حاولنا أن نفعل في حملة القراءة في فلسطين. وربما كان أهم ما رافق تلك الحملة هو المجموعات التي تكوّنت من خلال الحملة والروح التي نمت فيهم وفيما بينهم، وما فعلوه معا وما نتج عن اندماجهم في العمل، مثل "يراعات" والتي بإمكان سيرين أن تتحدث عن كل ذلك بإسهاب أكبر.
لعل أهم التحديات التي نواجهها في الوقت الحاضر هو تأمين فسح ومناسبات، متنوعة إلى أقصى حد، يتفاعل من خلالها الناس مع بعضهم البعض ومع محيطهم، ويعبّرون عن ذلك بالوسائل التي تروق لهم ويشعرون براحة معها. وهذا جزء مما نحاول أن نفعله في "الملتقى التربوي العربي" و"قلب الأمور". نتعامل، مثلا، مع اللغة في "قلب الأمور" بطريقة تتوافق مع ما جاء بأعلاه. فحتى كلمة "مجلة" اكتسبت معان جديدة من خلال تجربتنا قرابة السنة والنصف. فمجلات "قلب الأمور" لا تحتاج مثلا (كما هو سائد ضمن التفكير المؤسسي والمهني) إلى هيئة تحرير أو إلى تحرير، فالتحرير هو تشويه للتعبير الحقيقي والصادق للشخص، وهما قيمتان أساسيتان في المشروع. [أود هنا أن أشير إلى أمرين: هناك فرق بين وجود محرر لديه سلطة وصلاحية في تغيير تعابير الآخرين وبين قيام أعضاء كل مجموعة بقراءة ما كتبه الأعضاء، ومناقشة ذلك، ومن ثم قيام كل شخص بتعديل ما كتبه بناء على ما جرى من نقاش. أما الأمر الثاني فهو التأكيد على أني لا أتكلم هنا عن ال 5% (في أقصى حد) من الأوضاع التي نحتاج فيها إلى لغة رسمية معيارية، مثل الاتفاقات القانونية ومثل اللغة المستعملة في المؤسسات عامة.] كذلك، لا ضرورة أن تكون المجلة ذا حجم معين أو شكل معين، كما أنه لا ضرورة أن تكون دورية أو أن تخرج في أوقات معينة. كما لا توجد سيطرة من أحد على ما يُقبل وما يُرفض، فأي شخص وبدون استثناء يستطيع مع بعض الأصدقاء أو الأقارب أو الزملاء أن يكوّنوا مجموعة وأن يكتبوا قصصهم ويصدروا عددا من "قلب الأمور". أن يروي الإنسان قصته، وأن تكون لكل قصة قيمتها، كان عبر العصور نشاطا يوميا شخصيا لا يحتاج إلى إذن أو موافقة أو تحرير. [سأسهب خلال اللقاء في توضيح موقع اللغة والمدخل الذي نتبعه في مشروع "قلب الأمور".]
* * *
يمكن النظر إلى أنفسنا، في المنطقة العربية، على أننا محظوظون في علاقتنا مع اللغة. فنحن مؤهلون، وفي بعض الأحيان "مضطرون"، لمعرفة عدة لغات: اللغة (أو اللغات) التي نستعملها في حياتنا وتفاعلاتنا مع بعضنا البعض، واللغة العربية الفصيحة، ولغة أجنبية. من الضروري وضع الجهد اللازم لإبقائها جميعا حيّة في التعليم في البلدان العربية.
إن أي محاولة لفرض لغة رسمية واحدة على جميع الناس (كبديل للغات العديدة التي يستعملها الناس، والغنية عادة بالمعاني والصور)، أو تفضيل لغة أجنبية في التدريس (كما يحدث في كثير من المواقع والمدارس)، هو نوع من قطع شرايين هامة لحيوية التعبير ولحياة الناس والتواصل فيما بينهم، وهو نوع من قتل التنوع الصحي والضروري لحيوية أي مجتمع، وهو نوع من غزو وتشويه التعابير الصادقة للناس والغنية بالمعاني والجذور وبعلاقتها مع الواقع المعاش. بعبارة أخرى، نحن محظوظون بالغنى والتنوع الهائلين والرائعين فيما يتعلق باللغات واللهجات (الجميلة) التي تشكل الأداة الرئيسية للتعبير والتواصل بين الناس في حياتهم اليومية في العالم العربي. لذا، من الضروري حماية أنفسنا من أي هيمنة (بما في ذلك هيمنة لغة رسمية أو أجنبية) تؤدي إلى إلغاء أو مصادرة تعابير ومعارف الناس باسم التقدم.
أما بالنسبة للغة العربية الفصيحة، فإننا محظوظون أيضا لأنها تربطنا بالملايين في أماكن عديدة كما تربطنا بالأجيال الماضية، فقليل من الشعوب في العصر الحاضر التي تستطيع أن "تتحدث" مع الأجداد باللغة التي استعملوها قبل مئات، بل آلاف، من السنين. بهذا المعنى تشكل اللغة ذاكرة الأمة.
أما قضية التفضيل فهي غير واردة. فهي تعيدنا إلى "التفكير الخطي"، أي الذي يضع الأمور على خط مستقيم ويقارن بينها، مما يقتل التنوع في الحياة. من هذا المنطلق، مثلا، لا معنى للمقارنة بين محمود درويش (الذي يستعمل لغة فصيحة للتعبير عن أعماق ما يشعر به) وأحمد فؤاد نجم (الذي يستعمل العامية المصرية للتعبير عن أعماق ما يشعر به). فالتعبيران جميلان ورائعان وصادقان وخارجان من القلب، وما "يخرج من القلب يدخل في القلب". من هذا المنطلق، فإن الحوار حول تفضيل هذا على ذاك أو ذاك على هذا هو مضيعة للوقت وابتعاد عما هو جوهري. أما بالنسبة لاكتساب لغة أجنبية، فله حسنات واضحة لا حاجة للتعليق عليها، وهو ليس موضوع بحثنا في اللقاء على أي حال.
اللغة أداة، وسيلة. لذا فهي، مثلها مثل المدرسة والجامعة والمستشفى والسيارة والشارع والقلم، تساعد الناس على القيام بمهام وحاجات في حياتهم اليومية. ومثلها مثل أي أداة، إذا تحولت من أداة إلى هدف فإنها تصبح سلعة في سوق الاستهلاك وحاجزا بين الإنسان والمحيط الذي يعيش فيه. إن اللغة أداة تعمّق من علاقة الشخص وارتباطه بالناس والمجتمع والثقافة والطبيعة والحضارة والتاريخ؛ أداة تبعث البهجة والمتعة في النفس؛ أداة تساعدنا في بناء عالمنا الداخلي وجدل النسيج الاجتماعي، في البناء الفكري والنضج الروحي والعاطفي.
* * *
في النهاية، أود أن ألخص وأؤكد بعض ما جاء بأعلاه:
1. النقطة الجوهرية فيما سبق، والتي ربما لم أذكرها بشكل واضح، هي أن الحدّ الفاصل بين وجهة نظر وأخرى يكمن في مدى احترام الناس. فإما أن ننظر إلى الإنسان (كأي "بذرة" حية) فيه مقومات النمو والتوالد والتعلم والتأقلم، أو ننظر إليه كأنه غير قادر على العيش والتعلم دون وصيّ، وأن دورنا هو مساعدته. بعبارة أخرى، يكمن الفرق في التمييز بين من يؤمنون بالحياة والناس وبين من يؤمنون بأجوبة/ نماذج/ مواد جاهزة يسقطونها على الحياة والناس، من خلال مؤسسات ومهنيين. من الواضح أن ما جاء في هذه الورقة ينطلق من الاقتناع الأول. يتعلم الإنسان من خلال التفاعل مع من وما حوله، ودورنا هو توفير ظروف وأجواء تساعد الأطفال على مثل هذا التفاعل.
2. علينا أن نسترجع عقولنا من هيمنة الكتب المقررة والنصوص المكتوبة، وإعادتها إلى موقعها الطبيعي الذي تنمو فيه العقول بشكل صحي: الحياة. من الضروري أن لا تحتكر اللغة الحياة. اللغة هامة، وهامة جدا، ولكنها ليست نقطة البداية وليست المرجع.
3. علينا أن نتذكر دوما الكم والتنوع الهائلين في الحياة والخبرات والمعارف والتي لا يمكن حشرها ضمن لغة، مهما بلغت تلك اللغة من "سعة صدر" و"رحابة عقل" وقدرة على التعبير. أعود إلى أمي. أحمل شهادة الدكتوراه في التربية وأمي كما قلت أمية، ولكنها هي وأبي خلقا جوا لنا في البيت لم أستطع أن أخلقه لأولادي، بل لا أستطيع أن أستوعبه. الفرق هو في أن أمي لم تعرف علما بل استبطنت حكمة تراكمت على مدى دهور، ونمت بداخلها طبيعيا. وشتان بين الحكمة والعلم.
4. رغم أن اللغة قاصرة - أو بالأحرى بسبب ذلك- من الضروري أن نعبّر حتى نتذكر ونعي في أعماقنا مدى قصورها، ففي ذلك فائدتان (ربما تبدوان متناقضتين لأول وهلة). الفائدة الأولى، عدم الوقوع في فخ اعتبار التعبير يمثل الحقيقة، والفائدة الثانية تكمن في أن التعبير هو إحدى الوسائل الرئيسية لحماية أنفسنا من أن نكون ضحية سهلة لتعابير الآخرين. فمن يعبر لا يأخذ تعابير الآخرين على محمل أكثر مما هو ممكن لأي تعبير: محاولة رسم صورة تقريبية للواقع، ولكنها ليست الواقع. أي، حتى نحمي أنفسنا وعقولنا من احتكار اللغة لوسائل الوصول إلى المعرفة والتعبير عنها، علينا أن نسأل ونتساءل دوما عما تشير إليه الكلمات التي نستعملها أو نسمعها أو نقرأها، وما هو تأثير ما نقوله وما نفعله على صحتنا كأشخاص وكمجتمع وكطبيعة. ففي نهاية المطاف، اللغة والمعرفة وكل الأدوات الأخرى التي ابتكرها الإنسان هي في خدمة صحة الناس وصحة المجتمعات وصحة الطبيعة واستمرارية المجتمعات البشرية. وهذا بالضبط أحد ما يميز الحكمة عن العلم. فالحكمة تنظر إلى الأمور بكليتها قدر الإمكان. فمثلا، أكبر ملوّث للطبيعة ولجسم الإنسان خلال المائتي عام الفائتة كان علم الكيمياء. هذه الحقيقة، رغم آلاف الشواهد، لا تقلق الكيميائيين كما يظهر، ولا يعترف معظمهم بدوره في التلوث. فقد نمت العلوم والعلماء بحيث يستبطنون فصل الأمور في الأذهان. فالكيميائي لا يعتبر نفسه مسؤولا عن التلوث، وإنما يعيد السبب إلى سوء في التطبيق أو إلى جهل الناس أو إلى جشع المصانع والشركات.
5. أحد المواقع التي أرى جدوى التركيز على التعبير فيه هو السنوات الأولى في المرحلة المدرسية، وهذا يعني إلغاء المناهج وبرامج تدريب المعلمين في هذه المرحلة (ربما ما عدا برامج يتعافى من خلالها المعلمون من كلمات ومفاهيم ومدارك سائدة). ويشمل هذا بطبيعة الحال التعابير غير اللغوية أيضا مثل الدراما والموسيقى والرسم والرقص وغيرها.
6. اللغة أداة لزيادة التحادث والتواصل بين البشر وبالتالي بين المجالات المختلفة وليس لزيادة الدوائر المتخصصة المنغلقة على نفسها وغير المتقاطعة مع بعضها. اللغة أداة لتعميق التوحيد مع الحياة ومع الآخرين. فنحن لا نعيش بمعزل عن الآخرين. من الضروري أن نتجنب قدر الإمكان استعمال تجريدات وتعميمات تجعل من الموقع الذي نعيش فيه أكثر غموضا وغرابة وبعدا عنا.
7. نتكلم عن المعرفة والمعلومات وعن أهميتها ودورها في مساعدتنا، مثلا، في اتخاذ قرارات، ولكن ذلك يخفي حقيقة، إذا أهملناها نكون بذلك نخدع أنفسنا، ألا وهي أن معظم تصرفاتنا وقراراتنا ترتكز على ما نجهل أكثر بكثير مما على ما نعرف. وهذا بالضبط أحد ما يميز التواضع في الحكمة مقابل العنجهية في ادعاءات العلم. سأستعمل "النافذة" لتوضيح الفرق بين العلم والحكمة. العلم كما نمى عبر القرون الخمسة أو الستة الماضية يهتم بالإطار، ويسأل أسئلة حول الإطار: شكله ومادته إلخ. فادعاء العلم دوما أنه يتعامل مع المحسوسات. أما الحكمة فتهتم إلى جانب الإطار بالفراغ. فالفراغ هو جوهر النافذة، إذ بدون الفراغ لا معنى ولا فائدة للنافذة. فالفراغ هو الذي يسمح للهواء العليل بالدخول وللهواء الفاسد بالخروج، وهو الذي يسمح لشخص أن يمد رأسه ليستمتع بالمناظر حول البيت. هذه الورقة تشكل محاولة للاهتمام ب "الفراغات" في الحياة (إذا صح التعبير) وليس فقط بالمحسوسات.
8. المعافاة ضرورية للتعلم. وبشكل خاص، المعافاة مما تعلمناه عن طريق المؤسسات، خاصة المؤسسة التعليمية. ولعل أهم عنصر فيما نتعلمه في هذه المؤسسات هو ما يتعلق بالقناعات حول اللغة، مثل الاعتقاد بأن اللغة تقول شيئا دون المرور خبراتيا بما نحاول أن نقوله، ومثل الاعتقاد بأن معاني الكلمات مصدرها القواميس بدلا من التفاعل مع الحياة (بما في ذلك القواميس). الجهل لا يعني عدم المعرفة وإنما غالبا ما يعني معرفة مشوِّهة للواقع والحياة كما يعيشهما الناس أو معرفة لا تشير إلى شيء في عالم الواقع أو حياة الناس.
في كل تعميم ذكرته بأعلاه، أتكلم عن أغلب الناس في أغلب الأحوال أغلب الوقت. فأغلب الناس في أغلب الأحوال أغلب الوقت يعيشون خارج تدخل المؤسسات والمهنيين. من الضروري أن نحافظ على هذه المساحات والفسح، بل ونزيد منها قدر الإمكان، حيث نتنفس ونتعلم ونتعامل ونتفاعل ونعيش بسعادة وصدق وحيوية، دون مقارنات ودون منافسات ودون محاولة اللحاق بمعايير عالمية واقتناء مكاسب رمزية. لا شك أننا بحاجة إلى مؤسسات ومهنيين، ولكن إذا شعرنا أن تلك الحاجة زادت عن عُشر ما نفعله يوميا، علينا عندها أن نعيد النظر في نمط حياتنا.
منير فاشة - مدير الملتقى التربوي العربي
آذار/ مارس 2002