من نحن

الرؤيا/المنطلقات

لقاءات و مجاورات

إصدارات

ملتقى فلسطين

 
 
 
تجربة "الملتقى التربوي العربي"

“دور الثقافة والتعليم في التنمية العربية”
الشارقة/ دولة الإمارات العربية المتحدة
15 ديسمبر 2002

تجربة "الملتقى التربوي العربي"
يتمحور عمل "الملتقى التربوي العربي" حول أهمية السعي المستمر لكل شخص من أجل نمو/ بناء عالمه الداخلي (أي الصقل والتثقيف المستمرين للذات) ومساهمته في بناء النسيج الفكري الاجتماعي الروحي الثقافي مع الناس ومع المحيط الذي يعيش فيه.  ويشكل التأمل والتفكّر مليّا في الخبرات والأعمال الشخصية، والعمل الدؤوب على صياغتها والتعبير عنها على مدى فترة متواصلة من الزمن، والتناقش حولها، الأدوات الرئيسية في عملية البناء على هذين المستويين.  كذلك، تشكل الخبرات والتأمل والتعبير والتناقش الأساس لبلورة رؤيا مشتركة حول التعليم والتعلم في العالم العربي، والذي يسعى "الملتقى" أن يُسهم في بلورتها.

هناك العديد من الأفراد والمجموعات الذين يعملون ضمن رؤاهم الخاصة حول التعلم في العالم العربي.  ولكن لا يوجد جهد مستمر ومتراكم، ولا توجد وسائل وفرص تتفعّل وتتفاعل عن طريقها بلورة أفكار ورؤى حول الأعمال والخبرات، بحيث تؤدي بالتدريج وباستمرار إلى بلورة "رؤيا جماعية" حول التعليم والتعلم، رؤيا جماعية تحمي وتعمّق التنوُّع الموجود في مختلف نواحي الحياة، وفي نفس الوقت تخلق زخما حيويا، فكرياً وعملياً وتعبيرياً واجتماعياً وثقافياً، يمكن أن يدخل في محاورات ومناقشات وتفاعلات مع آخرين حول العالم.  ربما يكون أكثر الأمور غيابا من الساحة العربية هو الصياغة والتفاعل والتناقش، حول خبرات وأعمال الناس، وبالتالي غياب فكر أصيل يتكون باستمرار، وهذا ما نأمل أن نفعّله من خلال "الملتقى".

ربما يكون من المناسب التعليق هنا على  المعنى المتضمن في كلمة "تناقش" في اللغة العربية، إذ يجسّد بعض ما نسعى نحوه في "الملتقى"، فجذر الكلمة – نقش – يشير إلى عملية صقل وتجميل، والتي تعني – في حالة التناقش بين شخصين – مساعدة كل منهما الآخر على صقل وتجميل أفكاره ومداركه وتعابيره ونفسه.  أي أن الهدف من أي نقاش أو حوار أو حديث هو التثقيف المستمر للذات وبناء علاقات جميلة مع الآخرين، وليس كسب الآخرين لوجهة نظر معينة.  كذلك، كما تستسلم الصخرة للناقش، يفتح كل شخص قلبه وعقله للآخر، بحيث يفسح المجال لنفسه لأن يرى ما لا يستطيع رؤيته في ذاته دون مرآة الآخرين.  [لقد سألت وفتشت كثيرا، ولكني لم أسمع أو أقرأ أجمل وأروع من المعنى الذي كوّنه العرب حول مفهوم التناقش، والذي يتضمن – إلى جانب تجميل العقول والنفوس – تجميع الناس ضمن تعددية حيوية.]

حول الفكر وبناء فكر:
عندما نتكلم عن أمور مثل الثقافة والتعليم والتنمية (وهي المواضيع الرئيسية في لقاء الشارقة)، فإن الفكر والتعبير (بأشكاله المختلفة) يشكلان أهم مكونات هذه الأمور.  لذا سأبدأ بتوضيح ما أعنيه بفكر وبناء فكر، ودور التعبير في ذلك.

لا يوجد فكر في فراغ، ولا يتم بناء فكر خارج سياق ومنطق ما، بل ينبع ويتكون الفكر وبناء فكر ضمن منظومة من الفرضيات والقناعات والمبادئ والقيم والمعطيات، سواء أكان الشخص واعيا لها أم لم يكن.  بعبارة أخرى، يتضمن كل فكر قناعات وقيما تشكل العمود الفقري لذلك الفكر.  لذا، من الضروري أن يسأل كل منا نفسه حول القيم التي تحكم فكره وقوله وعمله.  [سأذكر لاحقا المبادئ والقيم التي ننطلق منها في فكرنا وعملنا في "الملتقى".]

ما أكتبه وأقترحه فيما يلي نابع من خبرة تمتد قرابة الأربعين عاما، في مجال التعليم والثقافة والعمل المجتمعي، في مواقع ووظائف عديدة، قمت خلالها بإنشاء مشاريع متنوعة، تمحورت حول العمل والتعبير والتعلم والبناء الفكري.  إلى جانب "التربة الحياتية" هذه، أستمد ما أكتبه وأقترحه في هذا المقال من "التربة الحضارية" التي غذتني، ومن القراءات والحوارات العديدة مع آخرين، في الوطن العربي وخارجه.

من الضروري، بداية، التمييز بين الفكر الاستهلاكي والفكر الأصيل، بين الفكر الكسول والفكر الحي، بين الفكر "البلاستيكي" والفكر الذي له جذور.  لعل أكثر المعاني السائدة حاليا والتي تجسّد كلمة فكر في حياتنا اليومية، وفي التعليم بوجه خاص، هو المعنى الذي يعكس استهلاك فكر جاهز، سواء أكان محليا أم عن طريق إحضاره من الخارج، وربما تعريبه أو أقلمته، واعتبار ذلك فكرا.  ولعل أخطر مثال على استهلاك فكر جاهز هو استيراد مصطلحات ونظريات جاهزة مع معانيها، وتغليفها بغلاف محلي، وبيعها كسلع جاهزة في المدارس والجامعات وأجهزة الإعلام، تحت اسم مناهج ومعارف وعلوم وبرامج، نقحمها إقحاما على لغة الناس وفكرهم، بطريقة تصبح الكلمات والمفاهيم أكثر حقيقة من الحياة نفسها، بل غالبا ما تكون مفصولة عن الحياة (نتعامل معها كما نتعامل مع السلع البلاستيكية الجاهزة).  هذه النظرة نحو الجواب الجاهز المنقطع عن أي جذور، هي التي مهدت الطريق لهيمنة منطق يدعي العالمية ويقضي باستمرار على التنوع والتعددية في العالم، خاصة خلال المائة سنة الماضية، وبوجه خاص في مجال الفكر والتعبير والثقافة، مما أدى إلى تفتيت مجتمعات عديدة وتمزيق جذور حضارية وثقافية.  وتشكل الأبحاث التي ترتكز على دراسات إحصائية أو استبيانية، في معظمها، (سواء في الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب) مثالا على الفكر الاستهلاكي.  من هنا، فإن الفكر الاستهلاكي أو الكسول لا يعني بالضرورة عدم عمل شيء، إذ من الممكن أن يكون نشطا جدا، ولكنه يعني فكرا يجتر أفكار الآخرين ومنطق ونهج الآخرين، أو فكرا يجعل من المفكر عبدا (رغم تسميته خبيرا أو مهنيا أو عالما، وهذا الخداع اللغوي نقطة ضعف معروفة في اللغة).  في مثل هذه الحالة، يكون العديد ممن ندعوهم مفكرين وخبراء وعلماء ومهنيين وفنيين بمثابة "قطع غيار" بشرية في سوق الاستهلاك (رغم أن التعبير الشائع هو "موارد بشرية") ضمن الآلة المؤسسية، التي تستبدل المهنيين حسب حاجتها، بفعل المنافسة وغيرها من متطلبات السوق والتطور بمعناه السائد حاليا.

أما الفكر الأصيل فيتم بناؤه عن طريق العمل والتفاعل وتأمل الناس فيما يعملونه ويمرون به، وفي الظواهر والنزعات والأنماط من حولهم وفي العالم، والعمل على صياغتها على مدى سنوات، والتناقش بين مختلف التأملات والتعابير والصياغات.  ولعل من أهم ما يميز التأمل، وبالتالي الفكر الأصيل، هو إعادة النظر في الكلمات والمصطلحات المتداولة ومعانيها، وفي المنطق والمبادئ والقناعات والقيم والمقاييس والمعايير التي تحكم أفعال الناس وعلاقاتهم ببعض.  لقد اكتشف الصينيون أهمية تعريف الكلمات قبل 3000 سنة حيث قالوا: "من يُعرِّف الكلمات يكسب الحجج."

سأختار مجال الإدارة كمثال لتوضيح ما ذكرته بأعلاه.  يمكن أن نبدأ بمفاهيم وكتب جاهزة وبخبراء في مجال الإدارة، فنكون بذلك نسير على طريق بناء فكر استهلاكي كسول، مهما وضعنا من جهد في محاولة نقل النظريات والكتب إلى العربية، ومهما حاولنا من وضع أمثلة من المجتمعات العربية لتأكيد أو دحض النظريات.  بينما إذا بدأنا بأشخاص عملوا في مجال إدارة مؤسسة أو مشروع أو رؤيا، في بلد عربي، حيث يقوم كل منهم بالتأمل في خبرته ومحاولة صياغتها على مدى فترة من الزمن، والتناقش حولها، فإن ذلك يكون أقرب إلى بناء فكر أصيل.  وهذا النوع من بناء فكر لا يعني التقوقع إذ أن التأمل يشمل أخذ خبرات الآخرين وتعابيرهم بعين الاعتبار، عن طريق القراءات والحوارات مع الآخرين.  يكمن الفرق في أن المرجع بالنسبة للفكر الأصيل هو الصدق مع الذات، أي مع الخبرات ضمن الواقع الذي يعيشه الشخص، ومع القناعات والقيم التي تحكم تصرفه، بينما المرجع بالنسبة لاستهلاك فكر جاهز هو خبراء ومصطلحات ومفاهيم ونظريات، يشار إليها بأنها "عالمية" أو "علمية" أو "تقدمية"، والتي تنسجم مع قيم المجتمع الاستهلاكي، ومن أهم هذه القيم التنافس والسيطرة والربح والفوز على الآخرين.  ضمن هذا المنظور الاستهلاكي، فإن المهني ليس شخصا يهتم بقضية وإنما شخص يهتم بمستقبله المهني.  بعبارة أخرى، من أجل بناء فكر أصيل حول مفهوم الإدارة، لا نبدأ بمفاهيم ونظريات وكتب جاهزة وإنما بتجميع أكبر عدد ممكن من "القصص" التي تحكي تجارب وخبرات أشخاص عملوا في مجال الإدارة في مجتمعات عربية مدة طويلة من الزمن وتأملوا في خبراتهم وعملوا على صياغتها على مدى سنوات وكتبوا عنها وتناقشوا حولها.  أما ما كتبه الآخرون فيدخل، كما قلت، في تأملات وتعابير الأشخاص كما هضموها وهم يصيغون قصصهم.  هناك فرق بين استيراد فكر وبين الانفتاح لكل الأفكار، سواء من الماضي أو من الآخرين.  إن أي فكر لا ينبع من جهد جدي ومتواصل في العمل والتفاعل والتأمل والتعبير، يكون فكرا ضحلا أو استهلاكيا أو نسخة ممسوخة عن الآخرين.

إذا نظرنا إلى المكتبة العربية، من النادر أن نجد كتابا يحكي حياة وخبرات وتجارب أشخاص عملوا في مواقع إدارية في الوطن العربي.  لا يعني هذا الغياب عدم وجود خبرات غنية وملهمة للتفكر فيها والكتابة عنها، وإنما يعني أن الفكر السائد، خاصة في المؤسسة الأكاديمية، يطمس الفكر الذي ينبع من الحياة (إلا إذا كان مرتبطا باللغة والمنطق السائدين).  من هنا تبرز أهمية توفير مساحات ومرافق وميزانيات في العالم العربي، حتى يقوم أكبر عدد ممكن من الناس الذين عملوا في مختلف المواقع والمجالات بالتأمل والتعبير عن خبراتهم.  وهذا ما آمل أن تشجعه وتدعمه مؤسسات عربية. إن توفير مثل هذه المساحات (والتي من الضروري أن تشمل موارد متنوعة، وأن تكون القيم الأساسية التي تحكم الفكر والعمل فيها هي صحة الإنسان وجمال العلاقات بين الناس وعدم الإضرار بالطبيعة) سيساهم بلا شك في بناء حركة فكرية أصيلة ومتنوعة وإنسانية ولها صداها ومكانها في العالم.

ينطبق ما ذكرته بأعلاه، ليس فقط على مفهوم الإدارة، وإنما على شتى المفاهيم.  ولعل من أهمها في عصرنا الحاضر مفهومنا عن التعلم ومفهومنا عن الحقوق.  فهناك مثلا كثير من الحديث عن المدارس والمناهج وما إلى ذلك، وقليل جدا عن التعلم!  كذلك، هناك كثير من الحديث عن الإعلان العالمي وقليل جدا عن الحديث عن معنى الحقوق ضمن حضارات ومعطيات أخرى.  إن الحديث عن الإطار وإهمال السياق والجوهر يمثل جزءا هاما من الفكر السائد (والذي كان في رأيي سببا رئيسيا في تضييق مفهوم التعلم وفي تدهور الحقوق في معظم المجتمعات التي قبلت بالإعلان دون أي نقاش حول فرضياته).  من هنا، يشكل إعادة الاعتبار للجوهر أحد أهم التحديات التي نواجهها في الحديث عن دور الثقافة والتعليم في التنمية.

بعبارة أخرى، يكمن المنطلق لبناء فكر صادق متنوع وأصيل، في مختلف المجالات، في استعادة مركزية التأمل والتعبير إلى التعلم والحياة.  لقد كان إهمال التعبير، أو قصره على أشكال وأنماط جاهزة، في المؤسسات عامة، وفي المؤسسة التعليمية بوجه خاص، سببا رئيسيا في غياب فكر حيوي نابع من العالم العربي، وفاعل فيه، وفي نفس الوقت فاعل على المستوى العالمي، كما كان سببا رئيسيا في غياب نهضة حقيقية في العالم العربي.

إن غياب فكر أصيل وحيوي في العالم العربي، لا يعني غياب المادة الضرورية لبنائه، فالمكونات الرئيسية للفكر الأصيل موجودة في كل مجتمع: العمل والتفاعل والخبرة والملاحظة والتأمل والاجتهاد والتعبير والتناقش والقراءة والبحث، خاصة ضمن مجموعات صغيرة.  [لذا، ووفقا مع هذا التوجه، أقترح أن يتكون في لقاء الشارقة مجموعة تتابع النقاش حول موضوع اللقاء "دور الثقافة والتعليم في التنمية العربية".]  المطلوب هو وعي وتفعيل هذه الأمور بشتى الطرق والأدوات المتاحة محليا.  هذه الحقيقة مهملة بالعادة، وإهمالها نابع من الفكر السائد نفسه، والذي يلهينا عنها بشعار اللحاق بالدول "المتقدمة"!  إن التخلف هو ليس عدم القدرة على اللحاق بالغرب وإنما عدم قدرة أذهاننا على التفكير ببديل لعملية اللحاق ذاتها.

إلى جانب الاهتمام بِ "التربة الحياتية والحضارية" كأساس لبناء فكر، من الضروري النظر بطريقة نقدية إلى الفكر الذي نمى وساد في الغرب خلال القرون الثلاثة الماضية، وما ولّده من علوم وتكنولوجيا، إذ من الضروري وعي ما نخسره أو ندفعه كثمن من جراء تبنينا لأي "تقدم" أو علم أو تنمية أو تعليم أو أي عملية أخرى مغلفة بكلمات جذابة، وليس فقط تعداد ما نكتسبه منها.  من الضروري أن نستعيد إلى فكرنا عملية الطرح، لا أن نقتصر فقط على عملية الإضافة.  أي، من الضروري أن لا ننساق بشكل أعمى وراء المكاسب وننسى المخاسر، وإلا نكون مثل التاجر الذي يسجل فقط ما يدخله، مهملا المصاريف!  علينا أن نتساءل عما ندفعه من ثمن وليس فقط عما نكسبه بالنسبة لأية عملية نتبناها.

سأختار علم الكيمياء كمثال. إن التركيز على ما أضافه علم الكيمياء (وهو بلا شك أضاف الكثير) وإهمال الضرر الذي ولّده (وهو أكثر) هو توجّه غير مبرر.  فالتلوث الذي ولّده هذا العلم خلال المائة سنة الفائتة في أجسامنا والبيئة من حولنا وفي الطبيعة ليس له مثيل عبر التاريخ، بل يزيد عن التلوث الذي تراكم عبر التاريخ!  هل التغاضي عن هذا وإلقاء اللوم على الذين يطبقون هذا العلم وتبرئة العلم والعلماء من مسؤوليتهم يحل المشكلة ويحمينا في المستقبل من تلوثات إضافية لا ريب أنها آتية طالما أننا نكرّم صانعيها وطالما أننا نغدق عليهم جوائز نوبل، دون رؤية العلاقة بين ما يفعلونه وبين زيادة التلوث؟  هذا لا يعني إلغاء علم الكيمياء وإنما استعادة قيمة المسؤولية إلى فكر وعمل العلماء، وإعادة النظر في مفهومنا وإدراكنا للعلوم. بعبارة أخرى، عندما نتكلم عن علم الكيمياء (أو أي نشاط آخر)، ضروري وضع قائمتين، قائمة بما أضافه ذلك العلم وأخرى بما سلبه منا.

بعبارة أخرى، إن الأضرار التي لحقت بجسم الإنسان والبيئة والطبيعة، وغيرها من المصائب التي نعيشها حاليا، ليست نتيجة الأمية والجهل والتخلف وإنما نتيجة العلوم ومشاريع التنمية التي لم يواكبها حكمة.  هي ليست نتيجة غياب فكر، وإنما نتيجة فكر خال من الحكمة.  كذلك، فإن تدهور العلاقات بين البشر وتمزيق المجتمعات وتدمير التنوع والتعددية في الحياة لم ينتج عن جهل بل عن قيم وممارسات ارتبطت بالعلوم والمعارف كما نشأت ونمت خلال القرون الثلاثة الماضية (مثل الأخذ من الطبيعة دون إعادة شيء لها في المقابل).  إن التدهور في الحياة والذي نعيشه حاليا على أصعدة مختلفة تمتد جذوره إلى الفترة التي سجن فيها العقل الحكمة وأطلق العنان للعلوم والتكنولوجيا وما استبطنته من قيم ومنطق، لتنمو بطريقة سرطانية.  بدأ التدهور عندما بدأ احتكار التعليم للتعلم واحتكار المعرفة للفهم واحتكار اللغة للعقل واحتكار المؤسسات للتحرك والعمل ومعاني الكلمات، أي عندما أصبح الإطار أهم من الجوهر.  ومن أهم ما يميز الحكمة، في نظري، هو أولا اعتبار التنوع/ التعددية صفة جوهرية في كل نواحي الحياة، وثانيا النظر في عواقب ما نقوله وما نفكر فيه وما نفعله وكيف نتصرف، أي النظر إلى الأمور بكليتها، وإلى العالم بتداخلات مكوّناته.  لا يمكن أن تستمر البشرية كما عهدناها، إذا نحن أهملنا الحكمة والتعددية، فحمايتهما ليست قضية أكاديمية بل ضرورية لبقاء البشر والمجتمعات على هذه الأرض.  من الصعب جدا أن تحدث نهضة حقيقية دون أن يلازم أعمالنا وأفكارنا هاتان القيمتان: الحكمة والتعددية.  فالتعددية ضرورية لأنها تقع في صلب الحياة وتكوّن أحد أهم مميزاتها؛ والحكمة ضرورية لاستعادة النظر إلى الحياة بأبعادها المختلفة، والتعامل معها بطريقة لا تهمل أي بعد (أي تجنب تطوير ناحية في المجتمع إذا كان لذلك أضرار في نواح أخرى).  إن إهمال الحكمة والتعددية هو الأمر الذي ميّز التقدم والتطور خلال الثلاثمائة سنة الفائتة على الأقل، وربما كان إقصاؤهما من وعي الناس في الغرب من أهم العوامل التي ساعدت في التقدم الهائل والسريع في العلوم والتكنولوجيا خلال تلك الفترة، إلا أنه أدى أيضاً إلى الخلل في الحياة الإنسانية والذي نرى آثاره بشكل واضح في الوقت الحاضر.  لقد قضت متطلبات التقدم في الغرب على كل شيء في ثلاث قارات وعلى نهب قارتين أخريين، فمن يطالب منا السير على هذا الطريق، يتطلب من الناحية العملية إيجاد قارات ننهبها ونرمي فيها نفاياتنا (خاصة النووية والكيميائية)!

ملاحظة أخيرة أود ذكرها هنا (دون أي إسهاب)، والتي تشكل أحد الأسباب في الضعف الفكري في مجالات الحياة: الاعتقاد بأن فهم موضوع مثل الرياضيات يحتاج إلى قدرة عقلية أكبر من فهم موضوع مثل المجتمع أو اللغات.  وممارستنا لهذا الاعتقاد تظهر في العديد من الحالات، إذ نتطلب مثلا معدلات أعلى لقبول الطلبة في كليات العلوم!  إن اعتبار فهم الكيمياء "أرقى" أو أهم من فهم المجتمع هو أحد أسباب الخلل الذي نعيشه في الوقت الحاضر، في معظم المجتمعات، والغريب أن كثيرين لا يزالون يعتقدون بأن الحل لمشاكل المجتمعات والناس يكمن في زيادة التكنولوجيا!

حول كلمات التعليم والثقافة والتنمية:
لا يوجد في اللغة العربية كلمة مرادفة لكلمة Education في اللغات اللاتينية والتي يعود تاريخها إلى 500 سنة فقط. وقد نبع المفهوم بشكل منسجم مع الحركة الصناعية وبروز هيمنة قيم السوق ومع بدء الحاجة لنمو دول وطنية (بمعنى وضع أسوار لحماية السوق المحلي)  Nation States وضرورة الهيمنة على العقول والتعابير والأذواق إلخ من خلال لغة رسمية ومعان رسمية للكلمات والمصطلحات، بحيث يستعمل كل الناس نفس الكلمات ويفهمون منها نفس المعاني (والذي نشير له في الوقت الحاضر بالمنهاج)، ومن يخرج عن ذلك يُعدّ أقل شأنا.  هذه السيطرة الكاملة على المعرفة هي التي تسربت إلى المجتمعات الأخرى، بما فيها المجتمعات العربية، تحت اسم تعليم.  ولكن كلمة تعليم في اللغة العربية ترادف كلمة Teaching في الإنكليزية، والتعليم بهذا المعنى يحدث في مواقع عديدة وبطرق مختلفة.

كذلك الحال بالنسبة لكلمة تنمية وهي أحدث عهدا من حيث الاستعمال، إذ بدأ استعمالها بالشكل السائد حاليا بعد الحرب العالمية الثانية، وقد جاءت نتيجة مناقشات تمت خلال الحرب حول كيفية مدّ الهيمنة الأمريكية الاقتصادية والسياسية على أكبر مساحة ممكنة (وكان هذا اسم المشروع الذي تبلور خلال الحرب).  وكانت أول معالم المشروع إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عام 1945 .  وفي العام 1949 أعلن ترومان (رئيس الولايات المتحدة عندئذ) أن شعوب العالم خارج أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية هي شعوب غير نامية وعلى الولايات المتحدة أن تنميها!!  من الصعب ذكر مثال عبر التاريخ أكثر عنجهية وعنصرية من إعلان ترومان هذا.  من الصعب الإشارة إلى فكرة عبر العصور أكثر جهلا وإهمالا للغنى والتنوع الموجودين في الحياة وفي المجتمعات أكثر من مفهوم التنمية كما تضمنه ذلك الإعلان.  لو اقتصر الأمر على موضوع إعلان عنصري، لما أثرته، ولكنه أدى تدريجيا، وبشكل كان من الصعب وعيه في البداية (بسبب تغليفه بكلمات براقة)، إلى تفتيت مجتمعات عديدة من الداخل وإلى تراكم ديون في الخارج، واللذين نرى آثارهما منذ عشرين سنة على الأقل.  كيف يمكن أن نتعامى عن دور التنمية في الزيادة المتسارعة للتدهور الذي طرأ على الحياة ومكوناتها منذ ذلك الإعلان؟  كيف نبرر غياب تساؤلات مستمرة، في العالم العربي، حول دور التنمية في التلوث (على مختلف المستويات)، وفي الخلل في التوازن البيئي، وفي التدهور في العلاقات بين الناس، وفي تمزيق "العالم الداخلي" لدى أغلبية الناس؟  من هنا تنبع أهمية إعادة النظر في الكلمات الرئيسية للقاء في الشارقة: التعليم والثقافة والتنمية.  هناك حاجة كبيرة لإيجاد حوارات جادة ومتواصلة حول هذه الكلمات.  إن التخلف لا يكمن في غياب برامج تنموية كافية وإنما في غياب مثل هذه الحوارات.

كلمة تنمية، كما استعملت منذ الحرب العالمية الثانية، لها إيحاءات عديدة ولكن ليس لها مدلول محدد، ربما يعود ذلك لأن المدلول الرئيسي المحسوس، والذي لا يُذكر عادة، هو تحويل المجتمعات إلى مجتمعات استهلاكية، تحكمه قيم السوق، وهي القيم الأساسية في الفكر المؤسسي والمهني (بما في ذلك المؤسسات التعليمية والثقافية).  المفهوم الذي أود طرحه هنا كأحد البدائل للمفهوم السائد يتقارب مع المفهوم الذي نستعمله في قولنا: "تنمية بذرة" والذي يعني تأمين أو توفير مناخ وظروف تنمو فيها البذرة بمقوماتها الذاتية الطبيعية.  وإذا خالفنا هذا المبدأ فإننا ندخل عندها عالم تخريب الطبيعة، عن طريق الهندسة الجينية، مثلا.  كذلك الحال بالنسبة لمفهوم تنمية مجتمع أو تنمية أطفال أو تنمية بشر، إذ أننا إذا أردنا أن نتجنب تخريب الطبيعة البشرية، فإنه يتوجب علينا أن نسير حسب نفس المبدأ: توفير أجواء وظروف (والتي بالضرورة يجب أن تكون متنوعة) والتي تساعد كل شخص (أو مجتمع) على النمو بمقوماته الذاتية، وتساعد الناس على بناء نسيج ضروري لاستمرار أي مجتمع.

سأختار القاهرة  كمثال لتوضيح علاقة التنمية، في شكلها السائد، بما يجري على الأرض.  القاهرة في رأيي من بين أكبر الكنوز الحضارية في عالم اليوم.  كيف يمكن أن نتكلم عن التنمية والفكر والعلوم والتكنولوجيا والتقدم والتطور، كما نمت خلال القرون الثلاثة الماضية، دون أن نتساءل حول دورها في تعريض مدينة مثل القاهرة (مثلها مثل معظم المدن) لعملية التدمير البطيئة التي نشاهدها، سواء على مستوى تلوث الهواء والماء والتربة، أو على مستوى الضغط على الأعصاب، أو على مستوى العلاقات بين الناس؟  كيف يمكن أن نتحدث عن الفكر في مدينة مثل القاهرة، دون أن نتساءل حول علاقة الأنماط الفكرية السائدة بالانهيار المتوقع (إذا استمرت النزعات الحالية، والمتمثلة بالتلوث غير المعقول في المدينة وبأنماط الاستهلاك والمعيشة)؟  كيف يمكن أن نبرر فصل الفكر عن المحيط الذي يعيش فيه الناس، وعما يجري حولهم، إلى هذا الحد؟ ربما من الصعب ذكر مدينة تستبطن في حياتها اليومية منطقا مغايرا للمنطق السائد قدر ما تستبطنه القاهرة. هي كنز حضاري اجتماعي عالمي. لا أعني بحماية القاهرة حماية الآثار الرائعة فقط وإنما أيضا، وهو في رأيي الأغلى، حماية الجو والروح وطريقة الحياة.  سميت القاهرة بالقاهرة لأنها قهرت كل الغزاة، فهل يا ترى ستكون قادرة على قهر السيارة، والتي تمثل حتى تاريخ اليوم، أشرس ما غزا المدن؟  تتغنى مشاريع التنمية، والشعارات التي ترفعها، بضرورة الاهتمام بالإنسان وأولوية الإنسان والبيئة، ولكن عند الممارسة، نرى كيف تدعس هذه البرامج على الإنسان وتهمل البيئة في سبيل أن تسير السيارة بأقصى سرعة ممكنة!  من الواضح أن هذا أمر خطير جدا ولكن أعود لأقول بأن العقل يستطيع أن يتعامى عن ذلك ويبرره، إذا لم يرافقه حكمة واستعادة الحواس في عملية الفهم.  إن الفصل بين الفكر والمحيط الذي يعيش فيه الناس هو جزء من المنطق الذي يحكم عالم اليوم، وهو جزء مما عنيته بالفكر الذي يفتقر إلى حكمة.  وقد عبّر سكان أمريكا الأصليون عن هذه الحكمة بتأكيدهم على الاهتمام بالجيل السابع، أي التساؤل المستمر عن كيف يؤثر ما نفعله على الجيل السابع من اليوم.  إذا لم تكن حماية القاهرة من أولى اهتمامات الفكر العربي والتنمية العربية، ماذا يكون أكثر أولوية؟  هل وضع كمبيوترات في المدارس (بدعوى الدخول إلى عالم العولمة والعصرنة)، والتي تستبدل الحياة بما يشبه الحياة على شاشة صغيرة تؤذي العقل والعين والروح والعلاقة مع البشر والطبيعة له أولوية؟  إن الاعتقاد بأن الإنسان يمكن أن يتعلم عن طريق النظر إلى شاشة هو مثل الاعتقاد بأن الإنسان يمكن أن يشبع عن طريق النظر إلى طعام!  (ربما من المناسب هنا ذكر المدرسة التي أسسها مديرون في شركة ميكروسوفت في منطقة "سياتل" لأولادهم، منعوا فيها استعمال الكمبيوتر قبل سن 15 سنة، وذلك لحماية أطفالهم، ووضعهم في جو يتعلمون فيه من الطبيعة ومن تفاعلهم مع بعضهم البعض ومن العمل باليدين، قبل أن يدخلوا عالم الكمبيوتر!  من الأسهل، كما يظهر، على الذين يعملون في المجال ويسهمون في خلق برامجه، رؤية مخاطر التعرف على الكمبيوتر قبل التعرف على الحياة). من هنا، فإن إعادة النظر في المفاهيم والمنطلقات والممارسات المتعلقة بالعلوم والتنمية والتكنولوجيا أمر يتعلق ببقاء البشر والطبيعة معا.  هذه ليست دعوة لمحاربة التكنولوجيا وإنما لتحويلها من سيد مطلق، من ديناصور يأكل في طريقه كل ما يجد، إلى أداة في يد الإنسان تحميه وتحمي الحياة والطبيعة من حوله وتساعده في تسليك أموره.  والحل لا يكمن في تحويل كلمة تنمية إلى "تنمية مسدامة" لأن المشكلة تكمن في القيم والمنطلقات التي تحكم الفكر والقول والفعل.

القيم والمبادئ التي نستنير بها في "الملتقى التربوي العربي":
إذا كان جوهر التعليم هو إيجاد أجواء وظروف تساعد الأشخاص والمجتمع على التعلم والنمو، وإذا كان جوهر التثقيف هو صقل الذات، وإذا كان جوهر التنمية هو إيجاد أجواء وظروف تساعد الأشخاص والمجتمع على النمو بمقوّماتهم الذاتية، فإن "الملتقى" (والذي يهتم بتثقيف الذات وتوفير أجواء وفرص للتعلم والنمو انطلاقا من مقوّمات ذاتية) يسير وفق مجموعة من القيم والمبادئ تنسجم مع الاهتمام بجوهر الأمور، أذكر بعضها فيما يلي:

المبدأ الأول الذي ننطلق منه هو أن كل إنسان يغذي ويتغذى باستمرار من "تربة حضارية حياتية" (إلى جانب التربة الأرضية بالطبع).  إن الثقافة والتعليم اللذين لا ينبعان من هذه التربة يكونان مثل الأزهار البلاستيكية التي تفتقر إلى جذور.  بعبارة أخرى، يتم صقل الذات والتعلم بشكل صحي إذا نبع ذلك من هذه التربة.  كذلك، فإن أية تنمية تهمل هذه التربة الحضارية الحياتية، وتحاول استبدالها بمصنّعات أو سلع جاهزة (بما في ذلك السلع التي تأخذ شكل مفاهيم ونظريات) تكون بمثابة فيروس "إيدز" اجتماعي لا يلبث أن يؤدي إلى قتل المناعة الذاتية لدى الناس والمجتمعات، فيصبحون فريسة سهلة لأفكار ومعان ونظريات جاهزة، ولا يلبث أن يؤدي إلى عدم قدرة الناس والمجتمع على العيش والبقاء بمقوماتهم الذاتية، بل يتحولون إلى مجتمعات تعتمد في غذائها اليومي (الجسمي والذهني والروحي) على سلع جاهزة تفتقر إلى الأغذية الضرورية.  إن الفكر الذي لا يتغذى من التربة الحضارية والثقافية والحياتية هو مثل النبات الذي لا يتغذى من التربة الأرضية، يكون بمثابة فكر "خطي" لا تدويري بحيث يستهلك، أي يأخذ دون أن يعطي.  وهذا يؤدي في النهاية إلى هدر للمقومات الذاتية.  فالذي يحكم الفكر الاستهلاكي هو سلع جاهزة وربح سريع.

أما المبدأ الثاني فهو أن كل إنسان مصدر فهم ومعرفة، وكل شخص بانٍ لمعانٍ وأفكار وتعابير وعلاقات.  بعبارة أخرى، الناس شركاء في تكوين المعاني وفي تكوين الواقع.  يشكل هذا المبدأ في نظري الأساس في أية نهضة حقيقية، فهو الأساس الحقيقي للتعددية والديمقراطية والمساواة والإبداع بمعناها الإنساني لا السوقي.

أما المبدأ الثالث الذي ننطلق منه فهو أن الحياة أغنى بكثير مما يستطيع الفكر (مهما بلغ من تطور) أن يستوعب.  بعبارة أخرى، نفهم أكثر بكثير مما نستطيع وضعه ضمن فكر ونظريات ومفاهيم ولغة ومعرفة.  أي أن اللغة والعقل قاصران عن فهم الحياة برمتها.  من هذا المنطلق، فإن مقولة ديكارت "أنا أفكر فأنا موجود" هو انحياز للعقل أقل ما يقال فيه أنه ساذج ومقلوب على حقيقته، وربما كان يعكس حماسا طفوليا للعقل، في وقت لم يع فيه الإنسان بعد مدى الدمار الذي يولده صعود العقل إلى العرش وسجن الحكمة.  فإطلاق العنان للعقل والعلم والتكنولوجيا أن تنمو جميعا دون حكمة أدى إلى دفع ثمن باهظ على مستوى صحة الإنسان (جسميا ونفسيا) وعلى مستوى الطبيعة والعلاقات بين الناس، فقد كان نمو العلوم والتكنولوجيا بشكل سرطاني سببا رئيسيا في الخلل الذي نعيشه اليوم.  وتصب مقولة "فرانسس بيكن" (والذي يُعتبر في الغرب أب العلم الحديث) حول ضرورة "الانتصار على الطبيعة  وإُخضاعها وخلخلة أسسها" في نفس المجرى الذي أزاح الحكمة من الطريق، وفتح الباب واسعا لمفهوم التقدم الضيق الأفق أن يسير دون اهتمام لما يجرى للإنسان أو حوله.  فما من شك أن قيمة جوهرية في أية حكمة هي المسؤولية، بمعنى عدم الإضرار بالذات أو بالآخرين أو بالطبيعة، وهذه القيمة غائبة غيابا شبه كلي من العلوم والتكنولوجيا بشكلها السائد.

والمبدأ الرابع يتلخص بأن كل إنسان، حتى تكتمل إنسانيته، من الضروري أن يعطي وليس فقط أن يأخذ. لا يوجد إنسان ليس لديه ما يعطيه.  أما ما هو متوفر لدى كل إنسان، وبدون استثناء، فهو خبرته وتجربته وتعابيره.  فالمشروع مبني على العطاء المتمثل بالتعابير النابعة من التفاعل والتأمل في الخبرات والحياة.

أما المبدأ الخامس فهو أن التعددية تشكل خاصية طبيعية وأساسية في كل الظواهر والكائنات وفي كل نواحي الحياة.  ولعل الفكر الذي ساد في الغرب منذ "ديكارت" و"بيكن"، والذي استبطن فرضية أن هناك طريقا عالميا واحدا ووحيدا للتقدم كان وبالا على التنوع والتعددية في الحياة.  ويقع مفهوم العولمة الرائج حاليا ضمن النهج الذي يقضي على التعددية.

نوع من التلخيص:
في النهاية أود تجميع بعض الأسئلة التي آمل الاستمرار في التساؤل والتناقش حولها، والتي تساعد في إعادة النظر في أمور تتعلق بالفكر السائد وبدور التعليم والثقافة في التنمية العربية:
 ماذا نعني بفكر، وماذا نعتبره فكرا أصيلا وكيف نساعد في بنائه؟  وماذا نعني بتعلّم، وما هي بعض معانيه التي طمست؟
لا يوجد فكر دون أن يكون مرتبطا بمنطق. والمنطق تحدده فرضيات وقيم.  ما هي الفرضيات والقيم التي تحكم المنطق والفكر السائدين، وما هي بعض الفرضيات والقيم التي ترتبط بأنواع أخرى من المنطق والفكر، تكون أكثر إنسانية؟

 كيف نبني مفهوما للعلم يكون أقل ضررا بالطبيعة والإنسان؟ هل المفهوم السائد للعلوم هو الأوحد، وما هي بعض المفاهيم التي طمست خلال عملية سيادة النموذج الحالي؟ ولماذا طمست وكيف؟

كيف نبني تعليما يكون أكثر احتراما للتنوع والتعددية في الحياة؟ وكيف نتكلم عن تنمية تأخذ بعين الاعتبار ما نخسره وليس فقط ما نكسبه؟

 كيف ساهمت اللغة في خلق مآزق حالية، وكيف يمكن أن تلعب دورا مغايرا؟

 في أي النواحي الحياتية نحتاج إلى مؤسسات ومهنيين، وفي أيها نحتاج أن نعمل دون مؤسسات ومهنيين؟

ماذا تقيس فعلا المعايير والطرق والمؤشرات السائدة حاليا؟ لماذا نقيس؟ وما هو تأثير القياس والتقييم على الفكر والعلاقات بين الناس وعلى المجتمع؟  كيف نبرر تطبيق مقاييس عالمية على جميع الناس، في عالم متنوع بشكل هائل؟  كيف نبرر مسخ قيمة الإنسان عن طريق رقم أو حرف أو تصنيف، ومقارنة الشعوب على "مسطرة" معيارية واحدة؟

 بما أن الاستهلاك يشكل "شريان الحياة" في العصر الحاضر، من الطبيعي أن يكون الفكر السائد حاليا، بمضامينه وأساليبه وطرقه، فكرا يخدم الاستهلاك.  ما هي الخصائص الأساسية التي تميز الفكر الاستهلاكي والمنطق الذي يحكمه؟

عندما تتحول المعرفة إلى سلعة، ويصبح المفكر "قطعة غيار" في سوق الاستهلاك، ماذا يبقى لنتمسك به لحمايتنا من ضياع إنسانيتنا؟  عندما نسجن الأمانة الفكرية ويصبح خداع الذات والآخرين (تحت اسم "علم التسويق" مثلا، والرائج حاليا على صعيد عالمي) وسيلة مقبولة لتقدم الشخص مهنيا ، من الطبيعي أن نقلق ونبحث عن فكر أكثر إنسانية.  وهذا ليس بالأمر الصعب إذا حمينا عقولنا من أفكار لا إنسانية، مثل الاعتقاد بوجود مقياس وحيد للشعوب وفكرة وحيدة للتقدم وطريقة وحيدة للتعلم،  وإغلاق الأبواب أمام طرق أخرى عن طريق عدم إعطائها شرعية وميزانية.

يمكن تجسيد الحكمة والتعددية والتنوع، وبناء فكر أصيل وتعبير مبدع، وإيجاد بدائل، وتعميق نهوض حقيقي، عن طريق دعم مبادرات موجودة تتبع مداخل متنوعة للتعلم، أو دعم القيام بمثل هذه المبادرات، وعن طريق إيجاد فسح للتجربة والتأمل والتعبير والتناقش وبناء فكر.  أي باستعادة التعبير كعنصر أساسي في مختلف نواحي الحياة، وتمثل الخطوات التالية جزءا مما يمكن عمله لاستعادة مركزية التعبير في بناء فكر:

توفير فسح تحتوي على موارد وأدوات متنوعة، حتى يتسنى لمن مروا بتجارب وخبرات غنية (في مختلف المجالات) بالتأمل والتعبير والتناقش، بهدف بلورة خبراتهم ونشرها. كما يمكن استعمال المكان للقاء أشخاص لديهم اهتمامات متشابهة أو متكاملة، لعدة أيام بهدف إغناء أعمالهم وأفكارهم وعلاقاتهم، وبهدف الإسهام في بلورة فكر جماعي وإنتاج مواد في مختلف المجالات الفكرية والثقافية والحضارية.
 

 تخصيص ميزانية لدعم مرافق ومجموعات وأشخاص موجودين في العالم العربي ويعملون في مجال الثقافة والتعبير على اختلاف أنواعه، يعملون بطريقة تجمع أشخاصا لهم خبرة طويلة ومميزة في مجال ما، مع شباب مهتمين بذلك المجال، بحيث ينتج تعلّم وبحيث يتعمق ويتفعّل العمل والفكر، وبهدف توسيع قاعدة المبدعين والمبتكرين وزيادة الإنتاج في شتى مجالات التعبير والفكر.  فالتعابير الحضارية هي المميز الرئيسي لأية أمة، والحافظ الرئيسي لذاكرتها، والعامل الأساسي في حيويتها.
 

الدعم الاجتماعي والقانوني، وليس فقط المادي، للقيام بتجارب في بناء أنواع مختلفة من "المدارس"، ويمكن البدء بإنشاء مدرسة (كجزء من الفسحة المشار إليها أعلاه) تعتمد التعبير محورا رئيسيا في فكرها وعملها (حتى في تعلّم العلوم والرياضيات).

منير فاشة - مدير الملتقى التربوي العربي
 

 
 
   
 
 
     

من نحن | إصدارات| لقاءات و مجاورات | الرؤيا/المنطلقات | البوم الصور

 
 اتصل بنا

Copyright © 2009 Arab Education Forum , All Rights Reserved