قوالب التعليم
بقلم: سيرين حليلة
دخلت مخيم شاتيلا للمرة الثانية خلال 3 أشهر، وأنا التي زرت لبنان للمرة الأولى قبل 4 أشهر فقط... اليوم تقوم ميسون بتدريس الأولاد لأن هذا "موسم" الامتحانات... في المرة الماضية كان اللقاء في مقر جمعية أخرى وكانت الغرفة معتمة جدا، والجو كئيبا، وكان الأطفال يتعرضون للتهديد إذا تغيبوا أو تأخروا عن الموعد أكثر من ربع ساعة بعدم السماح لهم بحضور اللقاءات مع ميسون... في ذلك اليوم، كان الأولاد مكتئبين وكان اللقاء قصيرا.
اليوم اللقاء في مؤسسة نجدة، وأراهم قد زادوا عددا، وأرى معظمهم مبتسمين ومنشرحي الصدر وكأن الدنيا فتحت أبوابها أمامهم.. مع أن واقع الحياة أبعد ما يكون عن هذا!
أخذت ميسون مجموعة وطلبت مني تدريس مجموعة، ثم جاءت متطوعة (ريا) لتدرس المجموعة فبدأت أتحدث مع بعض الفتيات اللواتي أخبرنني أنهن يتعلمن الدبكة الشعبية، فطلبت منهن أن يقدمن لي عرضا لدبكتهن وأن أعلمهن بعض الحركات...
بدأت الفتيات بالدبكة، ووجدت أنهن يحفظن مجموعة حركات كما هي دون تفريق بين حركة وأخرى، وأنهن تعلمن الدبكة دون عفويتها وإبداعها. حتى الأصوات الانفعالية التي تصدر عن "الدبيكة" خلال الرقص كانت تصدر عنهن بشكل منظم وجماعي، كالجوقة. حاولت أن أعلمهن بعض الحركات الأخرى ولكن كان ذلك صعبا لأنه لم يعد باستطاعتهن أن يتعلمن بشكل حر، بل يتعلمن بطريقة واحدة فقط.
حاولت أن أقارن لأفهم الفرق بين كيف تعلمت أنا الدبكة وكيف تعلمتها تلك الفتيات. أذكر أننا تعلمنا الدبكة كمجموعة من الحركات المستقلة والتي تشتق من بعضها البعض، فهناك حركات أساسية وأخرى مشتقة وأخرى مطورة. فهكذا يتعلم الشباب الدبكة بشكل تلقائي في القرية، وكان هو الأسلوب الذي تعلمنا به الدبكة على أيدي هؤلاء الشباب. تعلمنا أن حركات الدبكة هي اساسا للإبداع وليس قالبا مطلقا لا سبيل لتغييره. كذلك، كان فيها مجال واسع للابتكار وللتتميز الفردي. وسمح لنا هذا الأسلوب بأن نبدع في الدبكة الشعبية، وأن نشارك في أي حلقة دبكة مع اي (لويح) لأننا نعرف الحركات الأساسية. أما بالنسبة للفتيات اللواتي ترقصن امامي الآن فقد تم تحفيظهن الحركات مجتمعة عن ظهر قلب، دون تفريق بينها، ودون فهم لمكوناتها، فأصبحت الدبكة أمرا (مقولبا) جامدا، لا روح فيه. يبدو لي أن هذا هو حال الفن حين يدخل في حيز أسلوب "التعليم الرسمي": يفقد روحه ويصبح "قالبا" ويخلق "قوالب".