التعليم من أجل التغيير: تجربة تربوية في اليمن
"القوة في التعبير عن الحق"
جليلة شجاع الدين
سأبدأ مداخلتي بالتعريف بنفسي اسمي جليلة شجاع الدين وأعمل مديرة لمدرسة الشهيد زيد الموشكي الاساسية/الثانوية للبنات بمحافظة تعز – اليمن ورئيسة جمعية من طفل إلى طفل الخيرية ونائبة رئيس النقابة العامة للمهن التعليمية والتربوية وسأحاول ان اتعرض في هذا الملتقى لتجربتي في العمل الحكومي بالمدرسة.
قبل البدء بالحديث عن التجربة سأعطي خلفية عن التكوين الاجتماعي والنفسي والثقافي للمجتمع الذي نشأت فيه: أنا من مجتمع محافظ لا يتقبل التغيير بسهولة ولا يرضى بالانفتاح على الغير، والفتاة فيه محكومة برأي الآخرين ومربوطة بعادات وتقاليد بالية موروثة، عشت القمع الاسري والمجتمعي، وتعلمت قائمة الممنوعات، ممنوع قراءة اكثر من كتب الدراسة، ممنوع الاطلاع على تجارب الآخرين لان فيها العيب والعار، ممنوع الاختلاط بالشباب أو الاقتراب منهم أو الحديث معهم، ممنوع الخروج لان في الخارج اشياء لا تليق بنا كبنات أسر… الخ.
كل ذلك كان الاساس في تكويني الابتدائي حتى الجامعي فكنا نسترق الوقت واللحظات الخفية من أهلنا وأسرنا لقراءة كتاب لمفكر او رواية لأديب او مجلة فنية او الذهاب إلى السينما.
درسنا في مدارس تقليدية تفتقر إلى منهجية نشطة في التعليم والتعلم كان علينا انجاز مجموعة دروس وتحصيل العلامات لنستطيع مواصلة الدراسة لان الفتاة التي ترسب مصيرها الجلوس في المنزل وكنا نتدافع على التعليم ونتعطش اليه لإيماننا بأنه وسيلتنا للخروج مما نحن فيه وخضنا معارك كبيرة مع أهلنا ليسمحوا لنا بمواصلة الدراسة الجامعية بمحافظة غير محافظتنا، ولم يسمح لنا التعليم الجامعي باحداث تغيير يذكر في انفتاحنا على الآخرين إذ زدنا تمسكا بقائمة الممنوعات لخوفنا من أن يؤدي الإخلال بها إلى حرماننا من التعليم.
كنت من الدفع بعد الاوائل التي تخرجت من جامعة صنعاء عام 1981 م كلية التربية وكانت الدولة وقتها تبذل مجهوداً كبيراً في إعداد كادر تربوي محلي ليحل محل الاشقاء من المصريين والأردنيين والعراقيين والفلسطينيين وكان لا بد من الدفع ببعض العناصر اليمنية لتحمل مسؤولية الإدارات المدرسية وفوجئت وأنا في العشرينيات من عمري بكوني أحمل مسؤولية إدارة مدرسة (أساسية – ثانوية) لعدد حوالي (1200 طالبة) ولهيئة تعليمية من الاشقاء واليمنيين يفوقونني سناً وخبرة تربوية وتجربة حياتية وكان المطلوب مني خلق منهجية تعليمية في المدرسة ولم يكن عندي من سابق أي تجربة ادارية أو مجتمعية ولا أحمل فكراً تربويا وليس لدي منهجية او فلسفة تربوية واضحة.
لقد رفضت القرار من البداية ولكن إصرار مدير مكتب التربية في وقته وتفهمه لاحتياج البلد واحتياجي ساعدني كثيراً في تجاوز الكثير وكان تشجيعه ودعمه الكبيرين عاملاً مساعداً لاستمرار عملي بالمدرسة إذ كثيراً ما كنت أرجع اليه في تقديم استقالتي خصوصا عند تصادمي بمواجهة مجتمعية لم اعتدها أو آلفها وكان صبوراً للدفع بي إلى الامام.
فعلى سبيل المثال طُلِبَ مني في إحدى المناسبات الوطنية إلقاء كلمة، لم أكن لأجرؤ على الوقوف في حفل امام ميكرفون وحاولت الاعتذار ولم يُقبل، لذلك لم يكن امامي سوى أن أوفد طالبة من طالباتي ولأننا نضع اللثام في اليمن قلت لها أن تقول بأنها (أنا). لم أكن وقتها أدرك البعد التربوي ولا ماذا يعني أن أعلم طالبة الكذب وانتحال شخصية في وقت يفترض ان أعلمها الصدق ولكن هذه الواقعة فجرت داخلي صراعاً كبيراً من أجل التغيير، تغيير ما بداخلي وما هو من حولي ووجدت أنه لا توجد وسيلة فاعلة من أجل إحداث هذا التغيير في المجتمع وفي سلاح المواجهة معه سوى أن أغير في طالباتي وأحاول بناء شخصياتهن باستقلالية كبيرة وأبني قاعدة التغيير من خلالهن.
إن اول ما فكرت فيه هو توفير المناخ المناسب للتعليم، تعليم حر يلبي احتياجات الطالب والمجتمع مناخ خالٍ من القمع ويتيح إلى حد لا بأس به الانفتاح على الغير والمرونة في التعامل معه.
* حاولنا تأسيس مجالس فصول تكون مسؤولة عن إدارة الفصل ونشاطاته ومنتخبة بصورة ديموقراطية ومنحنا مجلس الفصل قدراً أكبر من المشاركة الادارية بمشاركة المعلمات بوضع علامات المحصلة الشهرية للمادة وبدأناها بمادة السلوك ثم انتقلنا إلى المواد الأخرى ووجدنا في الطالبات قدرة هائلة على تحمل المسؤولية.
* وفرنا وسائل تعليمية (مرئية – مسموعة) معينة للتعليم وسعينا إلى توفير معامل مدرسية متطورة ودعونا الطالبات وعبرهن أولياء الأمور بالمساعدة بتأسيس مكتبة مدرسية وتزويدها بالكتب المتنوعة التي تمكن الطالبات من الاطلاع والمعرفة ونجحنا في ذلك وزخرت المكتبة بالكثير وخصصت حصص للقراءة وفتحت المكتبة أبوابها للاستعارة والبحث.
* أتحنا للمعلمين حرية كبيرة وقدراً من المرونة في التعامل مع المقررات الدراسية وتكييفها وفق الاحتياجات المجتمعية والعمل على تغيير السلبي وتعزيز الايجابي مع الالتزام التام بالنسبة لمقررات الشهادة العامة (الاساسية – الثانوية).
* وزعنا العمل الاداري وفق مهام واختصاصات محددة وعملنا بروح الفريق الواحد واعتمدنا سياسة الرؤية بعين واحدة لجميع العاملين والدفاع عن حق أي عامل.
* شجعنا الطالبات على التعبير بوسائل المختلفة (رسم – غناء – قصة – شعر – مسرح – تمثيل – صحافة مدرسية – كلمة مكتوبة او مسموعة) وكانت الإذاعة المدرسية هي المنبر لكل هذه النشاطات وبدأنا تنظيم نشاطات موجهة للمجتمع (عمل مسرحيات – حفلات مدرسية – تنظيم معارض علمية وفنية – أيام خيرية) ونجحت الطالبات في مهارات الاتصال المجتمعي وحمل الرسائل الموجهة، وبدأ التغيير باتجاه الاسرة والمجتمع وبدأ كثير من التحول وقبول التغيير في مواقف اولياء الامور وتبدلت نظرة المجتمع المحيط وبدا اكثر تفهماً وقبولاً لكثير من الامور، التي ربما رأينا في وقت من الأوقات انه من المستحيل إنجازها او الوصول إليها. لقد شاركت الطالبات في ورش عمل مختلفة مع الشباب واستضفن في المدرسة المتلقى الإقليمي الثالث لبناة المستقبل حيث شارك شباب من الجنسين من عدة دول عربية (مصر – الاردن – فلسطين – لبنان) ونظمن في نهاية اللقاء حفلاً غنائياً شاركن فيه الشباب من الذكور والإناث الغناء والرقص والتمثيل ودعي كثير من الآباء والأمهات لحضور الحفل وكانوا سعيدين بمشاركة بناتهم ومشاركتهم.
* لقد استطعنا خلال الفترة من 1990 إلى 1999 ان نقطع اشواطاً عظيمة ولا شك ان هناك عوامل وطنية قد ساعدتنا في ذلك ولكن يظل العامل الاساسي هو إيمان الطالبات بقدرتهن على التغيير والتضحية من أجله، ان الأحداث التي شهدتها المدرسة في نوفمبر 1997، عندما كنت مسافرة خارج الوطن للمشاركة في أحد المؤتمرات حين صدر قرار بتغييري من المدرسة واستبدال أخرى بي وكان قراراً سياسياً وليس تربوياً، عندها لم تسلّم الطالبات بقبوله ورفضن دخول أي مديرة بديلة إلا بحضوري وموافقتي واعتصمن بالمدرسة لمدة أسبوع وشاركتهنَ في ذلك ومعلموهن ومعلميهن وآباؤهن وأمهاتهن وكوّنّ ملحمة قدسية في الدفاع عن مدرستهن طالبن باعتماد لغة الحوار أساساً لقبول القرار أو رفضه، وامتلكن حججاً قوية بقولهن إننا ندافع عن رمز وأمل وبناء شيدناه، وأشجار غرسناها إننا ندافع عن وطن وأم، والتضحية من أجلهما واجبة، الدفاع عنهما مشروع، إن المبادئ التي زرعتها فينا والقيم التي هذبتها هي سلاحنا اليوم.
* وفي اليوم السابع للاعتصام حدثت المواجهة الأمنية مع الطالبات واقتحمت المدرسة قوات أمنية لإخراج الطالبات مستخدمة الهراوات وإطلاق الأعيرة النارية وخراطيم المياه وكانت ملحمة الصمود والمواجهة قاومن الامن واخرجنهم من المدرسة منكسرين منهزمين.
* وعدت بعد المواجهة بيوم لتنظم لي طالباتي حفل استقبال في طابور الصباح لن أنسى ما حييت إجابة طالباتي يوم سألتهن كيف استطعتن هزيمة رجال الأمن؟ قلن: لانهم غزاة ومغتصبون ونحن أصحاب حق وأرض، لأنهم ألفوا العبودية ونحن أحرار لم نكن ندافع عنك وحدك ولكن كنا ندافع عن وجودنا وعن القيم النبيلة التي تعلمناها. عندها لم تسعني الدنيا من السعادة ليس لأن طالباتي دافعن عني فلم أعد أبالي ببقائي أو عدمه بل لشعوري بأن ما رجوته من تغيير قد حدث وان رسالتي قد وصلت إلى أجيال بيدهم تغيير كل المستقبل.
لإرسال ردود الفعل على هذا العرض:
jalila@y.net.ye