من نحن

الرؤيا/المنطلقات

لقاءات و مجاورات

إصدارات

ملتقى فلسطين

 
 
   
     
منير فاشه
جهاد توما
عبدالله الدنان
سارة التركي
عدنان الأمين
عماد ثروت
خضر دبوس
حسن الابراهيم
جليلة شجااع الدين
ليلى اسكندر كامل
مي يعقوب حداد
ميسون سكرية
منى الزياني
معتز الدجاني
سليمان ريحاني
منير فاشه
 

منير فاشه

قم من مرقد طبيعتك واستشرق! منير فاشه


تعود جذور البركان الذي زلزل قناعاتي وممارساتي في التعليم إلى الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1967. كنت عندئذ أستاذاً للرياضيات والفيزياء في كلية بيرزيت بفلسطين. كان ذلك يوم 5 حزيران، أول أيام الحرب، وجاءنا شخص من قبل الإدارة ليعلمنا بأن الحرب قد بدأت وعلينا الذهاب إلى بيوتنا بعد انتهاء الامتحان!

كنت عندئذ حائزاً على شهادة الماجستير كما كان الأساتذة من حولي حائزين على شهادة الماجستير والدكتوراه، وكنا نعتبر أنفسنا متعلمين ومثقفين وعلى علم ووعي بما يدور حولنا. جاءت تلك الحرب وخلخلت تلك القناعات وأظهرت لنا مدى بُعد التعليم عما يجري في العالم من حولنا.

كان أول ردّ فعلٍ لديّ هو الانهماك في القراءة، حتى أفهم ما يحدث، وحتى أفهم كيف يمكن أن نكون على هذا القدر الهائل من الجهل بما يجري حولنا، رغم الشهادات العالية الحائزين عليها. وددت أن أفهم لماذا يحدث ما يحدث دون أن أدري، ولماذا لا يحدث ما لا يحدث، أيضا دون أن أدري.

إلا أن ذلك البركان الذي زلزلني، وزلزل ملايين غيري، كان، مثله مثل البراكين في الطبيعة، يحمل في تربته الملتهبة مادة غنية خصبة حملت في ثناياها أنواعا من الغذاء للعقل والروح والقلب والجسم، حملت بذورا للخيال والعمل، حملت غذاء لـ"عالمي الداخلي"، عالم المعنى والإدراك والفكر والفهم والقيم، وعلاقة ذلك بالعالم من حولي، العالم الطبيعي والبشري والاجتماعي والحضاري. كان ذلك البركان تجسيدا لقول السهروردي قبل مئات من السنين: "قُم من مرقد طبيعتك واستشرق"، إذ أقامني ذلك البركان، كما أقام الملايين غيري، من مرقد طبيعة مصطنعة هامدة كنا قد اكتسبناها وارتحنا إليها عبر الجو الأكاديمي المنعزل عن الحياة، إلى رحاب طبيعة إنسانية تزخر بالحياة والتنوع والعطاء وإعادة البناء داخلنا وخارجنا. قمنا نعيد النظر فيما اكتسبناه من مغرب غريب، وفيما أهملناه من مشرق قريب؛ قمنا نستشرف ونستشرق عوالم أهملناها وكدنا ننساها، بما في ذلك مشرقنا العربي.

كان أول البذور التي حملَتْها تلك التربية الخصبة بالنسبة لي وبالنسبة لبعض الأصدقاء هو أن التعلم الذي يقتصر على ما يجري داخل الصفوف هو تعلُّمٌ ناقصٌ ومشوِّهٌ، في أبسط تقدير. لذلك قررنا أن نخرج أيام الجمعة والأحد لنقوم بأعمال منوعة في المجتمع، في المدينة والقرية والمخيم، في الملعب والمكتبة العامة والحقل والشارع. كان ذلك في العام 1971، كان بداية نمو حركة العمل التطوعي في الضفة الغربية، والتي نمت فشملت كثيرا من المدارس والجامعات والمؤسسات والمواقع. وقمت في العام 1973 بتقديم اقتراح لجامعة بيرزيت حول إدخال "العمل المجتمعي التعاوني" كمتطلّب للتخرج من الجامعة، وفعلا أصبح القيام بـ 120 ساعة عمل في المجتمع خلال سنوات الدراسة في الجامعة متطلبا للتخرج، وما يزال. وتبنّته جامعات أخرى في المنطقة فيما بعد.

خلال تلك الفترة بدأتُ ولأول مرة أكتب وأنشر ما أختبره وما أمر به، في الصحف المحلية. كان ذلك بداية قناعاتي بأهمية ومركزية التعبير في التعليم، التعبير المرتبط بالتأمل في الخبرات والأعمال والأحداث التي يمر بها الناس، وبوجه خاص التعبير الذي يعكس القوة الذاتية في الناس والمجتمع والحضارة. وقد لازمت تلك القناعة قناعة أخرى، ألا وهي أن أكبر عامل يقف عائقا لنمو الإنسان وتعلُّمه هو الاقتصار في التفكير والتدريس والخيال والعمل على الجواب أو الحل أو النموذج الجاهز، خصوصا إذا أدعى أو انتحل صفة "العالمية". ومنذ ذلك الحين، أي منذ بداية عقد السبعينيات، وحتى هذه اللحظة، وأنا أحاول الخروج من إطار الجواب الجاهز وادعاء العالمية، وأحاول إعادة الاعتبار للعمل والخبرة، والتأمل فيهما والتعبير عنهما، كمنطلق للتعلم والبناء، وذلك في مختلف المواقع والمشاريع والبرامج التي أنشأتها أو عملت فيها. فمثلاً:

في أيلول من العام 1973 انتقلتُ من العمل في جامعة بيرزيت إلى العمل كموجّهِ مركزي للرياضيات في مدارس الضفة الغربية ولمدة خمس سنوات. عملتُ في ذلك الموقع بنفس الروح ونفس القناعات والتوجهات، فقمت بتشجيع الطلبة على إنشاء نوادٍ للعلوم والرياضيات في المدارس. وكنت أركز، في تقديمي للفكرة، على أن التفكير العلمي لا يبدأ بأجوبة ونظريات جاهزة وإنما بأسئلة حول الحياة في مختلف مناحيها. وبالتالي فإن "المادة الأساسية" في هذه النوادي تكمن في أسئلة الطلبة أنفسهم، بل أكثر من ذلك، فإن الأجوبة هي أيضا من مسؤولية الطلبة وعليهم البحث عنها والتجربة حولها، وما المعلمون والكتب إلا موارد يمكن أن يستعين بها الطلبة في بعض الأحيان. كذلك، قمت في تلك الفترة بإصدار نشرات في الرياضيات حول تدريس الرياضيات وتعلُّمها، كان يكتب فيها الطلبة والمعلمون.

كان محور تفكيري وعملي في تلك الفترة يدور حول إيجاد أمثلة وأسئلة تربط الرياضيات بالحياة وبالسياق الذي يعيشه الطلبة. اتبعت في ذلك مدخلين: اختيار أسئلة بسيطة، مخلخلة وبانية في نفس الوقت، والتفتيش عن أمثلة حقيقية من حياة الناس. سأختار مثالين لتوضيح المدخل الأول، ومثالا لتوضيح المدخل الثاني. كان أحد الأسئلة يدور حول: ماذا يعني العدد 1؟ كنت مثلا أحمل قلم رصاص وأسأل: كم قلماً أحمل؟ كان الرد دائما: قلم واحد. كنت أقوم بكسر القلم وأبري الجزء المكسور ثم أسأل مرة أخرى: كم قلما أحمل؟ وهل كان القلم الأصلي قلما واحداً أم قلمين؟ هنا كانت الإجابات تبدأ في أخذ منحى آخر. كانوا يردون عن السؤال الأخير بأنه من الممكن أن يكون القلم الأصلي مساويا لخمسة أقلام أو عشرة. كانت تلك الإجابات بداية تحرّر خيالهم من الجواب الجاهز المنفصل عن السياق، وبداية تحررهم من عملية الاجترار ومن عملية إلغاء الحواس أو تخديرها. ومع تحرر خيالهم واستعادة الثقة بحواسهم، كان ينطلق تفكيرهم نحو آفاق بلا حدود.

أما المثال الثاني من الأسئلة، وقد سألته للعديد من الطلبة والمعلمين: ما معنى نقطة؟ كان من أجمل ما سمعته من إجابات، ما جاء على لسان طفلة من قرية نائية بفلسطين، لا تتعدى 7 سنوات، حين قالت: دائرة بدون ثقب! كان أول ردّ فعل لي لدى سماعي ما قالته تلك الطفلة هو أنها ربما لم تفهم سؤالي، إلا أنني تداركت نفسي وانتبهت إلى العمق والمرونة الذهنية والغزارة التخيلية لتلك الطفلة! إذ لا بدّ أن ما كان يدور في خيالها هو أمر من هذا التعريف لكلمة نقطة في الهندسة. فيه من الخيال الواسع ومن الأصالة ما يجعل تلك الفتاة مبدعة بكل معنى الكلمة. كانت تلك الخبرة من أروع الأمثلة التي مررت بها شخصيا، والتي عكست أهمية التعبير وأهمية التحرر من هيمنة الجواب الجاهز، كما أنها عمّقت من قناعتي بأهمية تعريف الكلمات كأهم ما يميّز عملية التعلم.

أما بالنسبة للمدخل الثاني، ففيما كنت أفتش في الكتب والمجلات-كعادة الأكاديميين-عن أمثلة تعكس علاقة وموقع الرياضيات في الحياة، انتبهت ولأول مرة أن ما كنت أفتش عنه كان يقبع في بيتي طوال تلك السنين دون أن أعيه، وذلك بسبب العمى الذي يصيبنا من جراء الأيديولوجية السائدة في مختلف نواحي الحياة والتي تعتمد بالدرجة الأولى على تعطيل الحواس. كان ذلك المثال هو "اكتشاف" رياضيات أمي، والتي كانت أمية تماما. كان عمري آنذاك 35 سنة، وكنت قد شاهدت أمي مئات، إن لم يكن آلاف، المرات تبدأ في الصباح بقطعة قماش مستطيلة الشكل تحضرها لها إحدى النساء لتخيط لها منها ملبسا، فتصبح تلك القطعة مع الظهيرة أكثر من ثلاثين قطعة متناثرة في أنحاء الغرفة، لا تلبث أن تجمّعها أمي مع قدوم المساء لتصبح مرة أخرى قطعة واحدة، ولكن هذه المرة يأخذ الكلُّ الجديد شكل ملبسٍ جميل مطابق لجسم المرأة التي أحضرت القطعة في الصباح! كان اكتشاف رياضيات أمي أكثر حدثٍ أثّر في حياتي الفكرية والمهنية، من حيث أنه خلخل طبيعة كنت قد اكتسبتها خلال سنوات الدراسة وارتحت لمرقدها، ونظرت هذه المرة في رحاب الحياة نفسها، حيث تشرق الأفكار كل صباح، من أجل بناء إدراك جديد للتعليم والتعلم لديّ، يكون أصدق مع الواقع. قلَبَ ذلك الحدث الأمور في ذهني ووعيي وإدراكي رأسا على عقب وأصبح منذ أواسط عقد السبعينيات البذرة التي بنيتُ عليها معظم ما قمت به منذ ذلك الحين من أعمال وكتابات ومشاريع. كانت تلك البذرة الأساس الذي انطلقت منه في محاولتي إعادة تسمية المسمّيات وإعادة تعريف الكلمات وبناء بدائل في الذهن وفي الواقع. كانت تلك البذرة، بعد وعيي لها، الأساس الذي ارتكزت عليه في تدريسي للرياضيات في الجامعة وأيضا في تدريسها للأميين الكبار. كما كانت القصة التي انطلقت منها في كتابة رسالة الدكتوراه(1). كذلك فقد كانت النبع الذي استقيت منه في إنشاء مؤسسة تامر بفلسطين، من حيث الفلسفة والمشاريع. وهي النبع لما أقوم به حاليا في عملي في "الملتقى التربوي العربي" وفي "قلب الأمور".

كذلك، فقد كانت تلك البذرة المنطلق الذي أدركت من خلاله أبعاد الإنتفاضة وعمقها. فمثلا تساءلتُ وقتئذ: عندما حاولت إسرائيل شلَّ المجتمع الفلسطيني، عن طريق إغلاق المدارس والجامعات ومعظم المؤسسات الأخرى، ما هي المقومات التي لم تستطع إسرائيل شلّها، والتي كانت الأساس في استمرار الحياة وفي قيام الناس بإدارة شؤونهم وتلبية حاجاتهم وضرورات معيشتهم؟ أي، ماذا كان لدى الناس من مقومات لا يمكن إلغاؤها بسهولة والتي أصبحت عماد المجتمع وأساسا لاستمرارية الحياة فيه؟ ما هي الأمور المتوافرة، والراسخة عبر قرون من الزمن في الناس والحضارة والمجتمع؟

الجواب الذي بدأ يتبلور في ذهني كان بسيطا وذا مغزى واضح: المقومات المتوافرة طبيعيا أو حضاريا (العائلة والجامع واللغة والكرم وإغاثة الملهوف والتكافل وما تنتجه الأرض، إلى جانب الحجر). لم يكن الإعلان العالمي هو الذي حمانا في تلك الفترة، ولم يسعفنا خبراء المجتمع المدني وأساتذة الديمقراطية، ولم تكن العلوم والتكنولوجيا هي العامل الحاسم، ولم تكن التنمية بكل مشاريعها هي الأساس لحلّ مشكلاتنا وتلبية حاجاتنا الأساسية، بل كانت العائلة والجامع والعادات العربية الأصيلة والمتأصلة الأساس الذي بموجبه استمر المجتمع الفلسطيني في الحياة والعطاء. كانت العائلة الإطار الاجتماعي الذي قام الناس من خلاله بإدارة مؤسسات عديدة وتأمين حاجات على مستوى المجتمع. لقد وعيت الدور الأصيل للجامع في الإسلام (وهو المعنى الموجود في أصل الكلمة)، كجامعٍ للناس من مختلف التوجهات والفئات لمناقشة أحوالهم وإدارة شؤونهم والقيام بحاجات مثل العلاج والتطبيب (بعد كل اعتداء للجيش الإسرائيلي على أي بلدة أو موقع)، ومثل الإعلام والتواصل في الموقع، ومثل التأمل والتفكُّر وقت الصلاة.

إلى جانب العائلة والجامع، كإطارين اجتماعيين أساسيين، برزت الحاجة إلى إطار ثالث من أجل قيام الناس بما كان ضروريا عمله، ألا وهو إطار اللجان في الأحياء، والتي شملت، من بين ما شملته، ما عُرف بالتعليم الشعبي والزراعة الجماعية.

بهذا المعنى كانت الانتفاضة مخلخلة وبانية في نفس الوقت. كانت حركة نفضت أوساخ "الطبيعة" المكتسبة وأعادت الإعتبار للطبيعة الجميلة المتأصلة في البشر والمجتمعات ... والشرق.

من الجدير بالذكر هنا أن ما رُكِّز عليه، بما في ذلك من قِبَل الفلسطينيين أنفسهم، هو الحجر والمواجهات. فالمقومات الأخرى قلّ ما تُذكر، بالرغم من أنها تشكل صلب المجتمع وتشكل العناصر الأساسية بالنسبة لاهتمامنا هنا ألا وهو التعلم والتعليم. ومن الجدير بالذكر أيضا أن المقومات المذكورة أعلاه ليست حكرا على الشعب الفلسطيني بل هي مقوّمات موجودة لدى معظم الشعوب والمجتمعات في العالم، ولكنها ربما تأخذ أشكالا أخرى، مثل المجموعات القاعدية المسيحية في أمريكا الوسطى والجنوبية. وهنا بالضبط تكمن القيمة الحقيقية لما حدث في فلسطين، تكمن في أنها كامنة في كل المجتمعات.

كان من بين ما وعيته في تلك الفترة، التباين الهائل بين الشكوى والمطالبة بالحقوق من جهة، وبين قيام الناس بأعمال من الضروري القيام بها من جهة أخرى. لقد برز ذلك التباين بشكل واضح في تعامل إسرائيل مع الأمرين. فمثلا، لم تعترض اسرائيل على عقد مؤتمرات، حتى في القدس نفسها، للمطالبة بفتح المدارس والجامعات، ولم تعترض على سفر أشخاص من الضفة والقطاع للمشاركة في مؤتمرات عالمية للاحتجاج على إغلاق المدارس والجامعات والمطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني، ولكنها واجهت التعليم في الأحياء وفي البيوت، والزراعة الجماعية في المواقع المختلفة، بشراسة لا مثيل لها، فقد كان الأمر العسكري في آب 1988 من أقسى الأوامر العسكرية، إذ كان يقضي بمنع التدريس في الأحياء ومنع الزراعة الجماعية، حيث يمكن أن يتعرض كل من يخالف ذلك الأمر إلى هدم بيته وسجنه مدة قد تصل إلى عشر سنوات! كانت تلك أول مرة أنتبه فيها إلى أن الاقتصار في العمل على المطالبة بالحقوق لا يشكل خطرا، بل في كثير من الأحيان يمكن أن يمتص الجهد والوقت، ويكون عائقا وبديلا لنمو بدائل في الخيال، ويكون بديلا للقيام بأعمال من الضروري القيام بها.

كذلك، فقد كان من بين ما وعيته في تلك الفترة حقيقية مذهلة ومهمة جداً تختص بعصرنا هذا من دون سائر العصور، ألا وهي حقيقة أن معظم ما نستهلكه ليس ضروريا وأن معظم ما نحتاجه متوافر لدينا! وقد قمت مع بعض الشباب فيما بعد (خلال السنة الأولى لإنشاء مؤسسة تامر) بحساب ما نستهلكه وليس ضروريا وكان الجواب مذهلا: أكثر من 70%! كذلك، فقد بدأنا ننتبه إلى أن نسبة ما يحتاجه الناس، والمتوافر في محيطهم المباشر، يصل أيضا إلى نفس الرقم، أي أن أكثر من 70% مما نحتاجه متوافر في البيئة المباشرة. إن هاتين الحقيقتين، واللتين تكملان بعضهما البعض، يمكن أن تشكلا ركيزة أساسية في بناء نهجنا لمواجهة المستقبل، بما في ذلك النهج الذي يمكن أن نتبعه في مجالي الاقتصاد والتعليم.

حاولت في تلك الفترة القيام ببعض ما يمكن عمله من خلال الجامعات، ولكن دون جدوى. لذلك، قررت في العام 1989 الخروج كليا من الجو الأكاديمي وأنشأت مؤسسة تامر، التي تدور فلسفتها حول استعادة التعلم في مختلف مجالات الحياة، إذ ازداد اقتناعي في تلك الفترة بأن المؤسسة التعليمية قد نجحت في مصادرة التعلّم من حياة الناس. بدأت أتفكر في المكوّنات الأساسية في التعلّم، سواء أكان الموقع مؤسسة تعليمية أم اقتصادية أم اجتماعية أم دينية أم سياسية أم في البيت والشارع. وبدأت ملامح المكونات تتوضح مع العمل والحوار والوقت. بدأت أعي أولا وقبل كل شيء أن التعلّم أمر طبيعي، مثله مثل الأكل والصلاة واللعب، يمكن أن يتم في أي وقت وأي موقع. وبدأتُ ثانيا أعي أن التعلم، مثله مثل التنفس، لا يمكن أن يتم إلا إذا حصل داخل الشخص وخارجه ضمن عملية واحدة متكاملة. فإذا اقتصر التنفس على الشهيق دون الزفير أو على الزفير دون الشهيق، يموت الإنسان. كذلك، إذا اقتصر التعلم على ما يجري خارج الإنسان أو على ما يجري داخله، يموت التعلم. وقد بلورت في حينها رسماً توضيحياً يعكس البناء على المستويين ويعكس توجه "مؤسسة تامر" لاستعادة البناء على المستوى الداخلي والذي بدأ يتبلور حول اكتساب عادة القراءة، والقدرة على التعبير التأملي، والقدرة على ملاحظة أنماط وعلاقات ومحاولة تفسيرها، والقدرة على إعادة تسمية المسميات وإعادة تعريف الكلمات، أي بناء معان للكلمات المألوفة والسائدة، والقدرة على الحوار والعمل ضمن مجموعات صغيرة، والقدرة على الفهم أي على رؤية التداخل والتكامل بين الأجزاء وعلاقتها بالكل، والقدرة على صياغة رؤيا يسترشد الشخص بها (وأعني بالرؤيا هنا رسم صورة عن الواقع وعن موقع ودور الشخص فيه والنهج الذي يريد أن يتبعه في السير نحو المستقبل). كذلك، ومع استمرار إغلاق المدارس والجامعات، ومع زيادة هيمنة الإعلام على فكر الناس والمعلومات التي تصلهم، برزت ضرورة بناء حملة لتشجيع القراءة ما زالت مستمرة.

كذلك، فقد تبلورت في تلك الفترة أهمية إعادة بناء العلاقة بين الأطفال والطبيعة والبيئة من حولهم، فكان المشروع "القارة الصغيرة"، وهو تعبير يشير به بعض الجغرافيين إلى فلسطين، وذلك للتنوع الهائل في طبيعة وطوبوغرافية البلد.

كانت قناعتي منذ عقد السبعينيات قد تبلورت حول مركزية التعبير في التعلم. لذلك كان أول مكوّن للجو التعلمي الذي بدأت أتحدث عنه وأتعامل معه وأجربه في مؤسسة تامر هو التعبير. فكانت فكرة التاريخ الشفوي وورش الكتابة ومشروع القراءة وفرق الشباب وصفحة نخلة الشبر ومشروع القارة الصغيرة جميعا تحتضن التعبير كجزء أساسي فيها.

كانت بلورة الجو التعلمي هي الخلفية التي نشأت عليها فكرة مجلة "قلب الأمور" والتي عملت على بلورتها مع مجموعة من العرب في منطقة بوسطن ومجموعة أخرى في لبنان خلال العام الدراسي 1997-1998، كما كانت فكرة الجو التعلمي الأساس الذي بنيت عليه فكرة "الملتقى التربوي العربي"


(1) See my article, Community Education: Reclaiming and Developing What Has Been Made Invisible. The Harvard Educational Review, February 1990




 
 

من نحن | إصدارات| لقاءات و مجاورات | الرؤيا/المنطلقات | البوم الصور

 
 اتصل بنا

Copyright © 2009 Arab Education Forum , All Rights Reserved