"التعليم المجتمعي في مصر: دراسة حالة من حي
جامعي القمامة من المقطم، القاهرة" ليلى اسكندر كامل
مقدمة
يمثل الحيز المكاني الذي يحيا ويعمل فيه جامعو القمامة جزءا معزولا يحيط بمدينة القاهرة في خمس أحياء شعبية : المقطم، طره، عزبة النخل، المعتمدية، البراجيل. وفي هذه المناطق، يتواصل جامعو القمامة مع أصولهم الريفية بتمسكهم بحرفة تربية الحيوانات. وهم يحافظون على تنظيمهم الاجتماعي والروابط العائلية بجوانبها التضامنية والصراعية. مع ذلك فان الأجيال الجديدة تمثل نبتا جديدا مميزا عن أفواجهم الأولى التي أتت إلى القاهرة في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من صعيد مصر، خصوصاً من محافظة أسيوط التي تقع على بعد 400 كم جنوب العاصمة.
وقد عقد المهاجرون الأوائل مع الواحية (الذين قدموا من الواحات) اتفاقا ليتولوا مسؤولية جمع قمامة المنازل. ولقد كان الواحية يقومون بجمع نفايات الورق من منازل سكان القاهرة، حيث كان هناك منفذ تسويقي لهذه النفايات الورقية لاستخدامها في الحمامات العامة وفي صناعة تدميس الفول التقليدية. كان الاتفاق أن يستمر جامعو القمامة (الزبالون) في توريد النفايات الورقية إلى الواحية، مع الاحتفاظ ببقايا الطعام والمخلفات الأخرى لفائدتهم الشخصية وأدرك هؤلاء الفائدة المحققة من وراء استخدام بقايا الطعام في تربية الحيوانات وفي تسويق النفايات المعدنية والبلاستيكية التي بدأت في الظهور في قمامة المنازل في الخمسينات. ومن الجدير بالذكر أنهم لم يطلقوا عليها كلمة "زبالة" بل كلمة "منافع".
حتى عام 1990 استخدم جامعو القمامة العربات الكارو التي تجرها الحمير لجمع القمامة من المناطق السكنية لمدينة القاهرة. ومنذ عام 1990 بدأ التحول نحو استخدام عربات النقل الصغيرة. وهكذا، فقد تولوا مسؤولية تطوير الخبرة الفنية الخاصة بنظام إدارة المخلفات الصلبة في المدينة. وعلى الرغم من أن قرار التحول إلى استخدام عربات النقل الصغيرة قد اتخذ من قبل السلطات المسئولة، فان الزبالين لم ينالوا أي قدر من المساعدة الخارجية لإنجاز التحول للنظام الجديد. فلم يحصلوا على أي تسهيلات ائتمانية لشراء وسائل النقل الجديدة ، ولم تنظم لهم دروس لتعلم قيادة السيارات أو تعلم إشارات المرور أو مبادئ القراءة والكتابة. مع ذلك، فقد اتخذوا قرارهم الإستراتيجي بالتجاوب مع النظام الجديد واستطاعوا تطوير استراتيجيات جديدة للتواؤم مع متطلباته.
1. ماذا تعنى "المعرفة الأبجدية"/محو الأمية؟
تُعرَّف المعرفة الأبجدية بأنها مهارة التعامل مع وتطويع الكلمة المكتوبة. وهكذا فقد ركزت الخطط القومية للتنمية جهودها الرئيسية على "محو الأمية" كما لو كانت هذه الأمية مرضا خطيرا. وبينما لا يستطيع أحد أن يناقض أن تقدم الأمم يعتمد بدرجة كبيرة على فئاتها المتعلمة ذات المعرفة الأبجدية، فقد حان الوقت لفحص ما يعنيه هذا التعريف بشكل نقدي.
تعرفت إلى حي جامعي القمامة ومجتمع الزبالين في شهر أكتوبر من عام 1982 وذلك اثر نداء من كنيستي لتعليم أطفال صغار ضمن برنامج لمحو الأمية في كنيسة القديس سمعان الخراز بجبل المقطم. وفى ذلك الوقت كان تعداد الحي يقرب من 15000 نسمة ولم تكن هناك مدارس، باستثناء تعليم القراءة والكتابة في فصلين لمحو الأمية: أحدهما يتبع الراهبات الهنود التابعين للأم تريزة والآخر بالكنيسة الأرثوذكسية المشار إليها.
وكانت هذه بداية رحلتي إلى عالم التعليم في بيئة مهمشة حكم عليها العالم على أنها بيئة فقيرة لا تمتلك أي شئ بل بالعكس ينقصها كل شئ وتحتاج إلى خبرة المتعلمين والمثقفين من خارج الحي.
وسلكت مثلما يسلك الجميع في مثل تلك المواقف: فرجعت إلى خبرتي السابقة في التعليم الثانوي والجامعي بكاليفورنيا وحاولت تطبيق المفاهيم وأساليب التعليم التي كنت قد اكتسبتها وطبقتها ونجحت فيها. ولكن سرعان ما اتضح لي أن كل النظريات التي نعمل بها لا تنطبق على الوضع الذي وجدت نفسي فيه في حي الزبالين بالمقطم.
فبداية، لم يعن المنهج الدراسي في الكتاب الرسمي الذي حاولت أن أستخدمه أي شئ لأطفال من سن السادسة إلى العاشرة هؤلاء الذين اعتادوا أن يخرجوا مع آبائهم منذ سن الرابعة في مهمة جمع القمامة من منازل سكان القاهرة وذلك في ساعات الفجر من كل يوم والرجوع إلى منازلهم في الساعة العاشرة للعب في شوارع مكتظة بالقمامة والقاذورات والذباب والحيوانات والعربات "الكارو" والمخلفات الآدمية في غياب مراحيض أو شبكة صرف صحي.
فكان لابد أن أعكس نظرتي إلى ما هو "مهم" للتعلم لانتقى المواضيع والكلمات والأنشطة التي قد يهتم بها الطفل في بيئة كتلك. وبعد عدة تجارب فاشلة توصلنا، نحن فريق المتطوعين في تلك التجربة، إلى اختيارٍ بدا منطقيا إلى أقصى درجة وهو البداية باللعب والحكايات والرحلات الترفيهية خارج الحي.
ومن هنا صمم البرنامج التعليمي على الفن القصصي الديني لكن باستخدام اللوحة الوبرية وبرنامج لعب منظم في مكان مرتفع من الجبل خالٍ من القاذورات والروائح الكريهة ورحلات منتظمة إلى حديقة الحيوانات والحدائق العامة والأهرامات والشواطئ المختلفة في مصر (قناة السويس، البحر الأبيض...)
ثم بدأت مرحلة التعليم في مجال الصحة حيث أننا أدركنا أهمية تعليم الأطفال مبادئ حماية أنفسهم من أهوال المعيشة اليومية في تلك الظروف. وكان اكبر معين في ذلك برنامج "من طفل إلى طفل" لأنه قام في المقام الأول على التعلم من خلال اللعب، والتمثيليات والأغاني ومسرح العرائس أي كل ما هو مبهج للطفل وبعيد عن الكلمة المكتوبة والمقروءة.
وكانت النتيجة أنه عندما بدأنا بتعليم القراءة والكتابة بعد الاتجاه في الأنشطة التربوية الأخرى أن كان تحصيل واستيعاب الأطفال أكثر بكثير عما كان الحال عليه عندما بدأنا بالكتاب والقلم والكراسة.
وبسبب ذلك انفتح لنا باب، بل كنز لم نكن ندركه في بداية هذه التجربة وهو الثراء والغنى الكامن في هؤلاء الأطفال "المهمشين" من قدرات تعبير وتحريك من خلال التمثيل، اللعب، الأغاني والقصص. وتأكدنا من ذلك بالنسبة للحى بأكمله حيث أن برنامجنا كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بالمنزل وكنا نتابع غياب كل طفلة بزيارة إلى منزلها لنتعرف إلى الأسباب التي أدت إلى ذلك الغياب. فانفتح علينا باب جهنم ثانٍ وباب الكنز في نفس الوقت. فمع أننا كنا نمشى في شوارع الحي ونختبر يوميا بشاعة البيئة التي يعيش فيها الناس إلا أن دخولنا إلى بيوت الناس جعلنا ندرك المشاكل اليومية التي تعيش فيها أسرة جامع القمامة من مرض وحوادث وحبس في السجن ووفاة مبكرة وزواج مكروه وثأر بين الأسر والأفراد وضيق مالي وغير ذلك من الأهوال اليومية التي يعيشها هؤلاء الناس.
وكان السؤال الأول الذي راودنا هو: كيف لم ينعكس ذلك على الأطفال في المدرسة؟ كيف يستطيع الطفل أن يعيش في جو عائلي ومجتمعي مهدد يوميا بالكوارث وفى جو مهنة تحكم عليه الاستيقاظ في الفجر لاصطحاب الأب في شوارع القاهرة والرجوع وهى مكتظة بالسيارات والتعرض للسب من أصحاب السيارات الى الزبالين أصحاب العربات " الكارو" ومع كل ذلك لم نر طفلاً محطماً، بائساً، منهاراً، منطوياً، معقداً ... الخ. بل بالعكس كنا نحظى، كل سنة، بمجموعة من الأطفال عندما ترفع صوتها للغناء نشعر أن سقف المدرسة سوف ينهار، مجموعة عندها حب للحياة والتعلم، ومحبة للناس والآخرين وابتسامة وفرحة تجعلنا نتساءل: وكيف لنا نحن أن نتذمر على أي شئ في الحياة؟ نحن الذين نعيش في بيوت نظيفة وشوارع وأحياء مرتبة نجد المياه الباردة والساخنة بوفرة في حنفياتنا، أكرمنا الله بالتعلم والمعرفة... كيف نجرؤ أن نشكو من أي ظروف وأي صعوبات؟
هل كنا في زمن مضى مثل هؤلاء وفقدنا تلك الكنوز التي وجدناها في نفوس هؤلاء الناس بسبب أننا تعلمنا واكتسبنا مهارات ساعدتنا على شغل وظائف وكسب عمل؟ هل كنا مثل هؤلاء عندما كنا "مصريين" مثلهم ولكن تحولنا إلى ناس ليست لهم هذه القوة عندما فقدنا هويتنا المصرية الأصيلة؟ كيف يستطيع هؤلاء المهمشون أن يكونوا بهذا الدفء وهذه المحبة وهذه القناعة وهذا الكرم وهم يعيشون دراما آدمية كل يوم من حياتهم. ما الذي يعطيهم هذا الأمل وهذه القوة؟
وكنا نتناقش ونبحث كثيرا عن مصدر هذا الكنز الآدمي في الناس فوجدنا أن الكرم هو الذي يدعوهم ليفتحوا لنا قلوبهم وبيوتهم كرم مصري وشرقي أصيل. ألم نرَ هذا الكرم في مجتمعات فقيرة ريفية في صعيد مصر؟ في قرى فلسطين؟ في جبال لبنان؟ في كل العالم العربي؟ كذلك الإيمان العميق الذي يدعوهم لشكر وحمد الله على كل حال ومن اجل كل حال وفى كل حال – في وسط المصائب والأهوال التي كانوا يعيشونها لم تفارق أفواههم كلمة " الحمد لله"!! فكيف تحول ذلك الكنز الممثل في الإيمان بالله والتدين في مصر إلى تطرف وتعصب وعنف؟
2. التعلم المجتمعي من خلال الصحة الأولية
شكلت الفترة الأولى من تجربة تعليم محو الأمية القاعدة الأساسية التي نتجت عنها كل المفاهيم التي بنيت عليها تجربة مشروع التعلم من خلال الصحة الأولية Primary Health Care ومشروع التعلم من خلال إعادة تدوير القماش.
فكان مشروع الصحة استجابة لحاجات ملحة للسكان في الحي من حيث تعلُّم وقاية أنفسهم وأسرهم من مخاطر العيش والعمل في وسط أكوام القمامة وتواصُل معهم من حيث تقديم المعارف والمعلومات وتنفيذ الأنشطة المهمة في مجال الصحة داخل البيوت وليس في المستوصف أو العيادة. وهذا كان متمشيا مع توصيات مؤتمرAlma Ata الذي عقدته منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسف وغيرهما في عام 1978 حيث اعترف الجميع بعدم فاعلية العلاج من خلال المؤسسات العلاجية الرسمية في تغيير صورة المرض في العالم حيث أن خصوصية المرض وظروف المريض جعلتنا نضع استراتيجية صحية تتمركز حول البيت وليست حول العيادة أو المستشفى أو المستوصف.
وكان هذا بعينه ما عزمنا أن نفعله في مشروع التعليم غير الرسمي في مجال إعادة تدوير القماش باستخدام النول المصري الفرعوني الأصيل. فكما أن الصحة لا تعلم في المستشفيات فأيضا كل العلوم الأخرى لا تعلم في المدرسة. ليس فقط لان المدرسة لا تؤدى مهمتها بكفاءة ولكن لان المدرسة لا يمكن أن تصل إلى مئات الملايين من الأطفال الذين يعيشون في بيئة فقر وفى بيئة مهمشة لا يمكن أن توفر للطفل ظروفاً تسمح بالالتحاق بالمدرسة access وأيضا لان الطفل لا يتعلم في المدرسة فقط كما أظهرت لنا التجربة في المقطم. وكذلك لان ما يتعلمه الطفل مرتبط ارتباطا وثيقا بما يحدث في المنزل وما تتعلمه الأسرة كلها. وأخيرا لان التعليم الرسمي يبدو وكأنه هو الذي يفقدنا هويتنا المصرية والشرقية فلماذا نريد أن نستمر في تجربة رسمية أكدت فشلها في حين أن الذين لم يلتحقوا بالمدارس الرسمية استطاعوا أن يحافظوا على عوامل تراث أصيل افتقدناه في الإنسان المصري " شبه المتعلم".
3. التعليم الأساسي المجتمعي وإعادة تدوير القماش
في عام 1988 بدأت جمعية أهلية في تنفيذ مشروع ريادي في مجال التعليم المجتمعي خارج نطاق المدرسة فأقامت مركز إعادة تصنيع فضلات القماش (الكهنة) بالمقطم واتخذ قرار واع منذ بداية التجربة بربط عملية التعليم الأساسي بالبيئة الطبيعية والاجتماعية والثقافية المحيطة.
كانت البيئة الطبيعية المحيطة هي أكوام القمامة، بيئة غير نظيفة من صنع مخلفات الإنسان. حيث ساد الصراع من اجل البقاء بالانتفاع من فرز المخلفات لاستعادة أقصى ما يمكن الحصول عليه لتشغيله و إعادة تصنيعه ثم تسويقه. وفي إطار هذا الصراع، تعرض الأهالي لظروف اجتماعيه تعج بمخاطر جسيمة لا مثيل لها، ومهانة إنسانية تفوق كل خيال. وقد حولتهم هذه البيئة الاجتماعية المشوهة إلى إحدى الجماعات الأكثر تهميشا في المجتمع، لما حرمتهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية في التعليم والرعاية الصحية والمشاركة في العمل العام. ولكنها أيضا صنعت منهم أشخاصا اكثر جلدا، يمتلكون العديد من الخبرات واكثر تصميما على البقاء، وفي نفس الوقت ملأتهم بإحساس عميق بالظلم والقهر اكثر من أي فئة اجتماعية هامشية في مصر. أما البيئة الثقافية فتعتمد بالأساس على التقاليد المتوارثة في مجالات الإنتاج والحفاظ على البيئة واسترجاع العناصر الأولية في البيئة وذلك تمشيا مع المثل الشعبي المصري الريفي: "اللى يطلع من الأرض لازم يرجع للأرض" واستخدام المواد المحلية. ولقد استخدمت كل هذه الحقائق لتساعد على تصميم برنامج للتعليم الأساسي يتمركز حول جمع ونقل واستعادة وإعادة تدوير وتسويق مخلفات من صنع الإنسان.
ولقد اعتمد تصميم هذه التجربة على المبادئ التالية:
أولا: بناء المقرر الدراسي على جوهر نشاط وحياة هؤلاء الأهالي، ألا وهو فرز القمامة. وهكذا فان البيئة الطبيعية المكونة من فضلات القماش النظيفة سوف ترتقى حتما بالبيئة التعليمية إلى مستويات الإبداع الثقافي والجمالي، ألا وهي صناعات يدوية باستخدام شرائط من القطن المصري ذي السمعة العالمية تقوم بها فئة اجتماعية فريدة – جامعي القمامة بالقاهرة – بنفس الأيدي التي اعتادت طويلا على مهانة فرز أكوام القاذورات العفنة يوميا على مدار العام.
ثانيا: يشغل مكون الثقافة الصحية أحد المكونات بالغة الأهمية داخل مركز إعادة تصنيع مخلفات الأقمشة.
ثالثا: تم استخدام الأنشطة الفنية والمسرحية داخل هذا الفصل التعليمي غير الرسمي لنشر الثقافة الصحية. ولقد تم تصنيع العرائس من فضلات القماش وتم تأليف وإخراج المسرحيات الدرامية والاجتماعية، بالإضافة إلى تأليف الأغاني والأشعار التي تتناول القضايا الصحية.
رابعا: اتجهت سياسة الالتحاق "بالمدرسة" في مركز إعادة تدوير القماش نحو الفئات غير المتعلمة – أي التي لم تتلق أي شكل من أشكال التعليم الرسمي والتي تعانى من الفقر. ولهذا فقد أعطيت الأولوية للأطفال الذين يعملون في خطوط جمع القمامة. ولقد تم انتشالهم من حاله القهر إلى بيئة جديدة تتيح لهم التعلم وكسب العيش بكرامة. وقد أطلق بعض الضيوف - من الغرب – من الذين لهم نظرة نابعة من مؤسسات التعليم الرسمي – على أن هذه الحالة "عمالة الأطفال"!
خامسا: تم تصميم التجربة على نقل عملية التعليم إلى داخل المنزل، ضمانا لتأثير المدرسة على الدارسين من خلال إزالة جدران المدرسة/المركز وتوسيع مفهوم مكان التعليم ليشمل المنزل، الشارع والمجتمع المحلى بأكمله. وهكذا استمر المتدربون على العمل في المنزل، في الرجوع إلى المدرسة لأخذ "الواجبات المدرسية" أو أمر التشغيل، لصنع السجاد والشنط والمرايل والمفارش وغيرها ثم يعودون مرة أخرى "لتصحيح الواجبات" أو بمعنى أدق، مراقبة جودة الإنتاج.
سادسا: إدماج قضايا العدالة والمساواة داخل هذا التصميم من خلال إتاحة فرص تعليمية متساوية للجميع، وبينما لا يحصل المتدربون المتفوقون- أي المنتجون الأكثر تميزا - على مزيد من العمل، يتم توزيع الأجور – أي الدرجات الدراسية - بحسب الاستحقاق. وهكذا يتم تأكيد مبدأ التفوق وليس مبدأ المنافسة.
سابعا: استخدمت التجربة التعليمية النول كوسيلة تكنولوجية مصرية قديمة ولم يتم استبدالها بتكنولوجيا حديثة مستوردة. وكانت القاعدة لدينا هي تطبيق النماذج الثقافية للإنتاج القائمة على التعاون والعمل الجماعي بدلا من المنافسة وهكذا فان المنتجين الذين لم يكن لديهم مكان داخل المنزل لوضع النول، أتيح لهم استخدام النول الموجود لدى الأقارب أو الصديقات بشرط موافقة الأهل على ذلك.
ثامنا: راعينا الأنماط الثقافية السائدة والخاصة بالقيود على حركة النساء. وهكذا، فان المدرسة - أي الجمعية الأهلية المشرفة على البرنامج - قامت بتوفير سيارة نقل لجمع فضلات الأقمشة من مصانع النسيج الكبيرة إلى المركز التدريبي الذي يقع في حي جامعي القمامة. ولا يسمح عادة للرجال بالدخول إلى المركز التدريبي (المدرسة)، وذلك لبث الاطمئنان في نفوس الأزواج والآباء على وجود زوجاتهم وبناتهم في بيئة اجتماعية "آمنة".
تاسعا: إتاحة الفرصة وتشجيع الزائرين للقدوم إلى المركز التدريبي ومشاهدة التجربة. ونتج عن ذلك زيادة التقدير للمنتجين ومنتجاتهم، وبالتالي زيادة الثقة بالنفس، وإحساس مفعم بالكرامة، وإدراك جديد للذات، بالإضافة إلى زيادة المبيعات وزيادة الدخل.
4. هي قضية ثقافية و تعليمية وسياسة قومية
تُظهر هذه المبادرة لجامعي القمامة بمدينة القاهرة كيف أن جماعة صغيرة تعانى من الحرمان قد تمسكت بتقليد ثقافي قومي يهتم بالحفاظ على البيئة بينما لم يتم تقديرهم أو فهمهم بواسطة صانعي السياسة القومية بل اعتبروا أنهم يمتلكون معارف متخلفة اجتماعيا وغير ملائمة تكنولوجيا، مع أن هذه المعرفة المحلية لها جذورها في الثقافة الشعبية، وقد تم تناقلها من خلال الممارسة عبر الأجيال وكونت إطارا لعمليات تعلم غير رسمية تتسم بالديناميكية العالية. وهذا التعلم شمل مجالات البيئة – إدارة المخلفات الصلبة، التكنولوجيا – صناعات إعادة تدوير المخلفات، محو الأمية، إدارة الأعمال، الصحة - الرعاية الصحية الأولية داخل المجتمع المحلى، تنظيم المجتمع المحلى - الجمعيات الأهلية. نقل التكنولوجيا – من خلال شبكات من الجمعيات الأهلية وانه لمن المثير للقلق أن نرى السياسة الرسمية في مجال إدارة المخلفات الصلبة تغامر في اتجاهات لا تعي معها العمق التاريخي والثقافي لممارسات جامعي القمامة المصريين بالإضافة إلى القيمة العملية والتكنولوجية لهذه الممارسات من وجهة نظر بيئية، ناهيك عن إسهامها الهائل في تعليم مجتمعات بأكملها على المستوى المحلى. وفيما يبدو فان النسق المعرفي المسيطر على أساليب التعامل مع القضايا البيئية المتعلقة بالمخلفات الصلبة يميل إلى تحييد المعرفة الشعبية والتجريبية للمجتمعات المحلية. لصالح التكنولوجيات المستوردة القائمة على حرق المخلفات من أجل توليد الطاقة، طرق التخلص بالدفن، وغير ذلك.
سواء في البيئات الحضرية كالقاهرة، أو الريفية كالصعيد، فان " الدارسين" هم الفقراء المهمشين وهم يحاولون – بقدر محدود من الموارد وببعض المساعدة من شركاء من خارج مجتمعهم المحلى – أن يحدثوا قدرا من التغير في وضعهم وواقعهم من حالة الإهمال والعوز إلى حاله من الديناميكية والإنتاجية وهم يستلهمون مداخل تقليدية في التعامل مع بيئتهم الثقافية، بينما العديد من القضايا التي تواجههم تتعلق بالبيئة الطبيعية المحيطة. ولكن الملح والبارز في الخطط القومية الحالية لتنمية هذه المجتمعات انه لا يوجد انظمة أو حلول مقترحة تتصل بالتقاليد المحلية المتوارثة في كيفية صنع الحياة أو فهم تلك الأصول والتقاليد. وإنما على النقيض تهبط المبادرات الجاهزة "من أعلى" لتتعامل مع قضايا التنمية المحلية دون أن تحاول البناء على معارف السكان المحليين. وأحيانا يبدو أن هذه الصياغات الرسمية منبثقة من تعاملات من الخارج مع ثقافاتهم سواء من حكومات أو مصالح تجارية للقطاع الخاص. أو بمحاكاة كل ما هو عصري أو غربي. وهذا الاتجاه السائد يعجز عن فهم وتقدير الخبرة الشعبية القائمة على الممارسة المحلية، ويحرم السكان المحليين فرصتهم لتعلم أساليب جديدة ولخلق وإبداع واقع جديد يُبنى على أنماط الحياة الأصلية ويَبني عليها.
5. العناصر الرئيسية للتعليم في المجتمع من خلال التنمية
استمر البحث عبر سنوات عديدة ومدخلات متعددة في قرى صعيد مصر وفى أحياء شعبية بالقاهرة ما أدى إلى توضيح بعض النقاط عن التعلم في بلد يعيش 50% من شعبه خارج نطاق التعليم الرسمي و30% دون مستوى الفقر. وفيما يلي بعض هذه النقاط:
أ. المدرس: ميسر وليس خبيراً
ب. المادة – من واقع الحياة
ج. الأسلوب: مبني على الخبرة.
د. المنهج: متغير وديناميكي
هـ. المدخل: البحث المستمر المتفاعل مع المتعلم والمتجاوب مع التجربة.
و. الفترة التعليمية/الدراسية: من المهد إلى اللحد.
ز. الاستيعاب والتقويم يتم على أساس تحقيق حياة أفضل ومشاركة في المجتمع المدني لتغيير الواقع.
ح. الوسائل: من واقع المجتمع المحلي، وبالمشاركة.
ط. المؤسسة التي يتم من خلالها التعلم: المجتمع بمختلف تنظيماته
ي. الأساس: حرية الاختيار.
نموذج للمواد التي تُدرَّس:
مياه محو الأمية
صرف صحي الصناعات الغذائية
الزراعة العضوية المستدامة تربية الحيوانات
إدارة المخلفات الصلبة الطاقة الجديدة و المتجددة
الحرف اليدوية الصحة الأولية
التسويق التراث الشعبي و الثقافة الشعبي
القروض: الصغير والمتوسطة الرحلات و المعسكرات الصيفية…الخ.
من هو المعلم؟
الزائرة الصحية المرشد الزراعي
منشط التنمية منظم المعسكرات و الرحلات
مسئول القروض..الخ
أين وكيف يتم إعداده؟
- في منظمات أهلية غير حكومية متخصصة أو غير متخصصة.
- باستخدام أسلوب المشاركة
- بالارتكاز على محاور متعددة التخصصات.
- بالبناء على المعارف المحلية الأهلية
- بالاعتماد على أساليب وتقنيات قليلة التكلفة
إلى أين التغيير في المجتمع: من خلال المدرسة؟ من خلال القاعدة الشعبية؟ هل يتلاقى الاثنان؟ في أي نقطة و كيف؟
والسؤال الذي يطرح نفسه على العاملين في مجال التنمية والتعليم في مصر هو: كيف نستطيع أن نصل إلى 60% من الإناث و54 % من الذكور الأميين في تجربة تعلم، خارج نطاق التعليم الرسمي فهم قد تسربوا منه. هل هذا يعنى انه ليس هناك مجال على الإطلاق للتعليم؟ أين هو؟ ما هو مضمونه؟ من هم القائمون عليه؟ كيف يتم تصميمه وتنفيذه؟ هل له أدوات قياس؟ ما هي مقوماته وهل يؤدى إلى تحول اجتماعي يتضمن عقداً اجتماعياً جديداً؟
لقد تعمدنا أن يشمل بحثنا تطبيق هذه المفاهيم في إطار مجتمعات ريفية مع فلاحين وفلاحات في صعيد مصر وأسفر عن ذلك اختلاف المداخل التي بدأنا بها في بعض الأحيان طبقا لاختلاف طبيعة المجتمع المحلي ولكن هناك بعض الخطوط العريضة التي لم تتغير ألا وهي:
1. احترام المعارف الأصيلة للفرد المصري، بما في ذلك الأمي، حيث أنها انعكاس لممارسات توارثها الشعب ولم يتعلمها في كتب بل هي مستمدة من سياق حضاري وتاريخ مرتبط ارتباطا جذريا بأرض مصر ونيلها.
2. تصميم الخبرات التعليمية في إطار المجتمع، داخل المنزل، في الشارع، في المقهى، في الجامع ، في الكنيسة، في أي مكان يتواجد فيه الناس بشكل طبيعي.
3. ابتكار أساليب تعليم مجتمعية تستخدم قدرات الناس الطبيعية مثل الفن الشعبي، القصص، الموسيقى، المسرح، الاراجوز.
4. إيجاد نقطة التلاقي بين المعارف الشعبية الأصيلة والمعارف "الرسمية" والعلوم المكتسبة من التعليم الرسمي لتحقيق التنمية والتعليم الحقيقيين.
لإرسال ردود فعل حول هذا العرض:
laila@cid.com.eg