"نحن نصنع معاناتنا وليس الحدث" سليمان ريحاني
إن فكرة الملتقى حول التعليم العربي والتأكيد في ذلك على تشجيع الحوار والابداع وبلورة رؤى مستقبلية للتعليم العربي وما يحيط بهذا اللقاء من الأطر العامة وغير المحدودة لهو فكرة عظيمة تعبر عن رغبة صادقة في التطوير والتأمل والابداع دون قيود أو حدود تحدد فكر التربويين أو تأملاتهم. الا ان هذا الانفتاح والحرية في الكتابة بعيداً عن تحديد الاطار إنما يجعل من أمر الكتابة فيه مسألة غاية في الصعوبة ذلك ان ما يمكن ان يدور في الذهن حول التربية العربية هو كثير ومتعدد الابعاد يجد الفرد نفسه فيه مضطراً للتفكير فيما يفعل وفيما يقوم به من أعمال مع زملائه في الميدان ومع طلابه مما يمكن ان يشكل جانباً قد يعتبره ايجابياً أو فكرة جديرة بالاهتمام أو برنامجاً علمياً قابلاً للتطبيق والتجريب. وبالتالي فان مثل هذه الفكرة يجب ان تدفع عند تطبيقها إلى تطوير العملية التربوية عموماً وفي بناء جانب أو اكثر من جوانب شخصية الطالب العربي الذي يجلس على مقاعد الدراسة والذي نعده لمستقبل هذه الأمة.
وفي هذا الاطار اشير إلى مجموعة من الأفكار والقضايا التي اعتقد أنها تصلح للحوار والنقاش في مثل هذا اللقاء والتي أجد نفسي مشدوداً إلى الاهتمام بها ربما بحكم اختصاصي في مجال الارشاد النفسي والتربوي. ومن هذه القضايا ما يلي:
1. التربية العقلانية والدور الذي يمكن ان تلعبه بعض برامج التربية العقلانية في بناء الشخصية السوية المتوازنة وفي التأثير على انماط التفكير وانظم المعتقدات اللاعقلانية السائدة التي يتبناها العديد من الطلبة والتي تقوم على اساس من التربية الاسرية والمجتمعية المبكرة في حياة الطفل. اما برامج التربية العقلانية فتقوم على اساس فلسفة ومبادىء نظرية البرت اليس في العلاج والإرشاد العقلي العاطفي.
2. مشكلة التسرب من المدرسة كمشكلة تواجه التعليم العربي لاسباب كثيرة تتفاوت من بلد إلى آخر أو من بيئة إلى أخرى ودور المدرسة في تنظيم البرامج الوقائية والعلاجية من خلال مراكز الارشاد والتوجيه فيها في مواجهة هذه المشكلة والتقليل من نسبة التسرب بل وإعادة المتسربين إلى مقاعد الدراسة.
3. مشكلة السلوك العدواني والعنف المدرسي الذي أصبح يأخذ شكل ظاهرة يزداد انتشارها في المدارس لدرجة تصل إلى حد الخطورة وما يترتب على المدارس من أدوار مهمة في بناء وتنفيذ البرامج الوقائية والعلاجية لمواجهة هذه الظاهرة، ومثل هذه البرامج، وقد تم تجريب بعضها من خلال بعض الدراسات العربية، تستند إلى تنمية التفاهم والتسامح واحترام الرأي والرأي الآخر والتدريب على ممارسة الحرية والديمقراطية في المدارس وتعليم الطلبة سبل حل النزاعات وطرق حل المشكلات كطريقة عقلانية في التفكير.
4. قضية تدريب المعلمين قبل الخدمة في إطار من الربط الصحيح بين النظرية والتطبيق واعتماد برامج التربية العملية التي تزاوج بين دور الجامعات وكليات التربية من جهة وبين المدارس التي يتدرب فيها هؤلاء الطلبة، وذلك من خلال اعتماد اسلوب الاقامة أو التلمذة في المدارس والاستعانة بالمعلمين المتميزين في لعب دور اساسي ومهم في الاشراف على تدريب الطلبة في المواقف الصفية مباشرة حيث يلعب المعلم دور المعلم المتعاون ويكون مسؤولاً عن تدريب عدد محدود من الطلبة يتعاون بذلك مع مشرفي التدريب واعضاء هيئة التدريس من كليات التربية في تطبيق النظرية وتجريبها في الميدان وتمكين الطلبة من إتقان المهارات اللازمة والكفايات الضرورية لعملية التدريس بما فيها مهارات استخدام تكنولوجيا التعليم والمعلومات والتعامل معها في التعلم والتعليم.
هذا بعض مما يدور في الذهن وهناك الكثير من قضايا التربية التي لا يتسع المجال هنا لحصرها، إلا أنني سأتناول في هذه الورقة المتواضعة القضية الأولى وهي قضية التربية العقلانية.
التربية العقلانية
ففي إطار الخبرة الذاتية سواء في التدريب الجامعي أو في الارشاد النفسي للطلبة أو في إطار الدراسات العليا فقد وجدت ان هناك انتشاراً واسعاً للأفكار اللاعقلانية التي تحدث عنها البرت أليس في نظريته حول العلاج العقلي العاطفي بين طلبة المدارس والجامعات في بيئتنا المحلية وربما العربية مما دفعني إلى الاعتقاد بان نظرية البرت أليس في انتشار الافكار اللاعقلانية بين ابناء الحضارة الغربية وعلاقة تلك الافكار باضطراباتهم النفسية والعصابية بشكل خاص هي اكثر صدقاً في حضارتنا العربية والشرقية عموماً ، وهو ما اكدته بعض الدراسات التي قمت بها وتلك التي قام بها باحثون آخرون وطلبة الدراسات العليا الذين اهتموا بهذا الموضوع.
وبذلك فقد توجه اهتمام البعض إلى بناء وتطوير برامج ارشادية وتربوية اتجهت بشكل خاص نحو ما يسمى "بالتربية العقلانية" التي تأخذ بالاعتبار تعليم الطلبة عملية التفكير وكيفية نشأة التفكير العقلاني أو اللاعقلاني منذ الطفولة بتأثير من الأسرة والوالدين بشكل خاص ثم المجتمع المحيط بكل ما فيه من عناصر الثقافة التي تعلم الطفل انماط التفكير وتبني فيه منظومة من الافكار والمعتقدات التي ربما تكون في بعض الحالات من النوع اللاعقلاني الخرافي واللامعقول وغير القابل للتطبيق والتحقق.
وتستند هذه البرامج إلى مجموعة من الافتراضات الاساسية التي تؤمن بالدرجة الاولى بان الانسان مخلوق عقلاني وغير عقلاني في آن واحد وهو لفظي يستخدم الالفاظ والرموز اللغوية في التعبير عن أفكاره وإن تفكيره اللاعقلاني انما ينشأ في طفولته المبكرة متأثراً بثقافته وتربيته الأسرية والاجتماعية وانه "أي الانسان" قادر على التحكم بذاته والتأثير على سلوكه وفقاً لمقدرته على التحكم بأسلوب ونمط تفكيره. وبالتالي فهو قادر ايضاً على التحكم بانفعالاته والسير في اتجاه الشخصية السوية باعتبار ان التفكير يترجم إلى سلوك وأن اضطرابات الفرد الانفعالية وانفعالاته بشكل عام لا تكون ناجمة عن الحوادث الخارجية التي يتعرض لها بل عن تلك السلسلة من المعتقدات والجمل والألفاظ الذاتية التي يقولها الفرد لنفسه والتي تشكل عملية عقلية تتوسط بين الحادث والانفعال وبالتالي تكون مسؤولة عن ذلك الانفعال.
وبذلك فقد ركزت البرامج الارشادية والعلاجية والوقائية على ما يلي:
1. التعرف إلى الافكار والمعتقدات اللاعقلانية التي يتبناها الطالب والتي تشكل بالنسبة له في معظم الاحيان مطالب وجودية وشروطاً يضعها الفرد على نفسه من النوع الذي يصعب تحقيقه وربما يكون مستحيلاً أو خرافياً ويؤدي به إلى الشعور بالتعاسة والشقاء وعدم القيمة والاهمية فيفقد احترامه لذاته ويعتبر ان لا قيمة له إذا ما استطاع ان يحقق ما يريد من المطالب الكمالية والخرافية المثالية المتطرفة مما يتسبب عنه اشكال من السلوك العصابي اللاعقلاني.
2. تركز المرحلة الثانية من البرنامج عادة على تعليم الطالب بانه هو المسؤول عن استمرار اضطراباته عن طريق استمراره في الحفاظ على افكاره اللاعقلانية والإلحاح على تكرارها لنفسه امام الحوادث التي يتعرض لها وان تفكيره اللاعقلاني في الحاضر والمستقبل هو المسؤول عن حالته وليس تأثير حوادث الماضي وهو ما يعرف باسم نظرية (ABC).
3. اما المرحلة الثالثة فتركز على حمل الفرد على تغيير تفكيره والتخلي عن أفكاره اللاعقلانية غير المنطقية المستحيلة التحقيق واستبدالها بأخرى عقلانية ومنطقية قابلة للتحقيق وذلك بالانتقال بالنظرية إلى مستوى آخر هو التفنيدDisputing حيث يعمل البرنامج على تفنيد أفكار الطالب وبيان اسباب خطئه واستحالة تحقيق اهدافه مع التركيز على الافكار والمعتقدات والاهداف البديلة التي تبدو اكثر عقلانية وامكانية للتحقيق.
4. تركز المرحلة الرابعة من البرنامج على الانتقال من مشكلات الطالب الشخصية وأفكاره المحددة إلى مناقشة فلسفته العقلانية واللاعقلانية في الحياة وما يتبناه من أفكار لاعقلانية بعيداً عن مشكلاته الشخصية وذلك بهدف الوقوع فريسة لمزيد من التفكير اللاعقلاني وتبني فلسفة عقلانية في الحياة تكون نتيجتها ان يستبدل الطالب بفلسفته اللاعقلانية فلسفة عقلانية في الحياة ويستبدل افكاره ومعتقداته الخرافية اللاعقلانية بأخرى عقلانية.
وحين يتحقق ذلك فان الاتجاهات والانفعالات السلبية تختفي مع السلوكات الهدامة للذات ويتحقق للفرد درجة معقولة من الصحة النفسية وبناء الشخصية السوية المتوازنة.
هذا ويعمل البرنامج في المرحلة الاخيرة على تعليم الطالب تكوين مجموعة من الجمل والعبارات التي تشكل افكاراً عقلانية منطقية وتعبر عن موقف أو مواقف ايجابية نحو الذات ونحو الاحداث الخارجية وتصف الجوانب الايجابية التي يتميز بها الفرد والتي تشكل مواطن القوة في الذات.
لإرسال ردود فعل حول هذا العرض:
rihani@ju.edu.jo