هكذا تُحدِّثُنا غزة: رام الله عاصمة استهلاكية وليست اقتصادية
يتم تخريب غزة من خلال طائرات ودبابات وبوارج، ويتم تخريب رام الله من خلال بنوك وشركات استثمار ومشاريع تنموية تعمّق نمط الاستهلاك في العيش بين الفلسطينيين...
يتم تخريب غزة خارج الإنسان، ويتم تخريب رام الله داخل الإنسان...
الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي يقودان عملية تخريب غزة، والبنك الدولي (وصحبه من البنوك التي تحمل أسماء وطنية جدا) يقود عملية تخريب رام الله...
كل ما نسمعه من حلول ووعود ومساعدات ما هو إلا محاولات لتحويل غزة لتصبح العاصمة الاستهلاكية للقطاع، تماما كما حدث لرام الله حيث أصبحت العاصمة الاستهلاكية للضفة، تستهلك ما لدى الناس والمجتمع من قدرات ومقومات من أجل تحقيق هدفين: الأول، تمزيق المجتمع وسلبه القدرة على توليد ذاته وإغراق الناس في نمط عيش مخرب للبشر والطبيعة، والهدف الثاني هو تسمين بنوك وشركات استثمار ودول رأسمالية على حساب الناس والبلد.
من أكثر ما سمعته إلهاما خلال عقد السبعينيات، ولا يزال يلهم خيالي، وله معنى كبير لما يحدث في فلسطين، كان قولا لماوتسي تونغ: "إذا رأيتم دبابات وطائرات وبوارج تقصف الصين، لا تخافوا؛ أما إذا رأيتم الكوكاكولا تدخل الصين إعلموا عندها أن الصين في خطر." بعبارة أخرى، إن قصف العالم الداخلي للإنسان وتمزيق النسيج المجتمعي هو الخطر الأكبر والهزيمة الحقيقية، بينما قصف الخارج مع بقاء الداخل معافى يقوّي الإنسان والترابط بين الناس. يمثل نمط الاستهلاك السلاح الرئيسي لقصف الداخل، والدبابات والطائرات السلاح الرئيسي لقصف الخارج.
رام الله ينخرها السوس من الداخل بينما غزة يكتنفها الدمار من الخارج. ما زالت رام الله مثل شجرة يانعة جميلة فيها مكان لكل الألوان، وما زالت فيها حيوية اكتسبتها عبر عقود. عشت فيها منذ تهجيرنا من القدس عام 1948، ولا أرغب السكن في غيرها. ولكن، "وول ستريت" رام الله – كما تسميه أختي – ألا وهو ’شارع رافات‘، فهدفه لن يكون مختلفا عن هدف "وول ستريت" الأم في نيويورك (والذي تمثل بوضوح في الآونة الأخيرة بسرقة مدخرات الناس ومنحها للأغنياء). رام الله مهددة في العمق. يتحول الناس فيها إلى أشخاص تعتمد قيمتهم على مقدار ما يأخذون ويستهلكون. رام الله تأخذ ولا تعطي. تحولت منذ سنتين أو ثلاثة إلى عاصمة الضفة الغربية الاستهلاكية، بما في ذلك استهلاك الثقافة. العاصمة الاقتصادية الإنتاجية في الضفة الغربية هي الخليل، ولكنها مغيبة كليا، خاصة من كليات الاقتصاد في الجامعات الفلسطينية، حيث تشكل أمثلة من الغرب مادة ومرجعية هذه الكليات.
من أبرز مظاهر التخريب الذي تقوده رام الله (وقادته مدن أخرى قبلها في المنطقة وحول العالم) هو تحويل كل شيء (بما في ذلك الناس والثقافة والأرض) إلى سلع. لأول مرة في تاريخ فلسطين تتحول الأرض من مصدر انتماء وغذاء ومعنى ووجود إلى مجرد سلعة معروضة للبيع والشراء. لأول مرة يبيع الفلاحون أراضيهم. فالأراضي التي بيعت في القرى حول رام الله خلال السنتين الماضيتين لم يشهد تاريخ فلسطين مثيلا لها، وأصبحت ملك عدد صغير من الأشخاص. كان الفلاحون على استعداد أن يروا أراضيهم تُصادر، من أن يعاملوها كسلعة معروضة للبيع. العلاقة مع الأرض كانت بمثابة العمود الفقري للمجتمع والحياة الفلسطينية؛ أصبحت مثل علاقة تاجر ببضاعته. ونقرأ حاليا عن مشروع إنشاء مدينة أخرى، ربما ستفوق رام الله في تخريب داخل الإنسان وتمزيق خارجه.
كتب ’محمد إقبال‘ الشاعر الهندي الباكستاني قبل 75 سنة ، شعرا على لسان لينين يوم الحساب، بما معناه أنه أخطأ عندما كان يردد أن الدين هو أفيون الشعوب إذ كان من الأولى والأصدق أن يقول بأن البنوك والدول ’الوطنية‘ هما أفيون الشعوب. رأى ذلك بوضوح قبل 75 سنة بينما ما زلنا نلهث وراء الاثنين وكأنهما المخلص!
نشاهد الآن بعد فشل تركيع غزة من خلال التدمير الخارجي محاولات مسعورة لتحطيمها من الداخل، وذلك عن طريق مساعدات من قبل دول دعمت تدميرها من الخارج! والهدف هو تحويلها إلى عاصمة استهلاكية لقطاع غزة. هذا لا يعني عدم مساعدة غزة وإنما أن تكون المساعدة بإشراف الناس.
كتب ’إيفان إللتش‘ قبل 30 عاما في كتابه "العمل في الظل" بأنه لم يكن في مقدور الغرب السيطرة على بلدان، وقهر سكانها وسلب خيراتها دون فكرة المساعدة التي تتم عبر مؤسسات. ورأى غاندي أن الطريق في مواجهة شركات النسيج في مانشستر (وهو الطريق الذي سلكه فعلا) هو قيام كل هندي بجدل ثيابه على النول في بيته. ما نواجهه في فلسطين ليس أمرا جديدا وإنما واجهته شعوب في مناطق عديدة من الجدير أن نقرأ تاريخها. ومن بين الأمثلة الأكثر خطورة على الوضع البيئي للأرض هو تنمية وتزريع الأمازون، إذ أن ضرر ذلك يفوق أضعاف الأضرار التي تتم عبر حروب. حتى الأمير شارل قال بعد الحرب العالمية الثانية بعدة سنوات، بعد أن رأى الإعمار الذي تم لمدينة لندن، بأن مشاريع التنمية خربت لندن أكثر مما خربته الحرب العالمية الثانية...
كمثال أخير، ولعله الأكثر معنى لوضعنا في فلسطين، هو عندما عجزت الحكومتان الأمريكية والكندية في القضاء على المجتمعات الأصلية بوسائل البطش الظاهرة، لجأتا إلى تدميرها عن طريق ما أسموه ب"مدارس السكن" لأطفال السكان الأصليين بهدف مساعدتهم وتنميتهم وتطويرهم.
الحقيقة الكبرى في الوقت الحاضر والتي نضع رؤوسنا في الرمال ونرفض رؤيتها هي أن الحضارة التي سادت عبر خمسة قرون والتي بدأت بتدمير شعوب وحضارات ثلاث قارات تدميرا شبه كامل، هي الآن في حالة احتضار. ما يجري حول العالم وعلى مختلف الأصعدة يشير إلى ذلك. وما الاجتماع الذي هرول إليه حكام الدول الغربية ليضعوا رؤوسهم في رمال شرم الشيخ في محاولة يائسة لعدم رؤية هذه الحقيقة إلا مؤشرا فاضحا على ذلك. لم يجتمع هذا العدد الهائل من زعماء الدول الأوربية بالسرعة التي تجمعوا فيها للدفاع عن مصالحهم والتقليل من الخطر الذي هددهم بسبب رفض مجموعة صغيرة أن تركع. هذه أعجوبة الإنسان وأعجوبة الحياة: الناس هم القوة العظمى الأزلية منذ بدأت المجتمعات بالتكوّن. من الحري بنا أن نعي ونكتسب الحكمة المتضمنة في الأعجوبة التي اسمها غزة...
باختصار شديد، نواجه كفلسطينيين صراعا على صعيدين: تحطيم الداخل وتحطيم الخارج. ويتطلب العمل في هذه المواجهة أيضا على صعيدين: انتزاع أنفسنا من أنماط في الإدراك والعيش والفكر والتعبير والتعامل، واستعادة ما سلب منا من قدرات ومقومات. والقناعة الأساسية في كل هذا هي أن الناس هم الحل للمشكلات الكبرى التي تواجهها البشرية. المؤسسات والمنظمات الدولية والحكومات غير قادرة وغير مؤهلة لحلّها.