لماذا مُحي من الذاكرة الفلسطينية المؤتمر الذي عقده فلاحو فلسطين عام 1929 بشأن التعليم؟
الجريمة المستمرة هي إلغاء معارف الناس وفنونهم وطرق معيشتهم...
ربما تكون النزعات التي تميز العصر الحديث، أكثر من غيرها، ثلاثة: الأولى، المحاولة المستمرة لانتزاع الإنسان من التغذّي من تربتين، التربة الأرضية والتربة الثقافية (المجتمعية الحياتية). والنزعة الثانية، إلغاء معارف الناس وفنونهم وطرق معيشتهم واستبدالها بمعارف وفنون وطرق معيشة مرتبطة بنمط الاستهلاك في العيش. أما النزعة الثالثة فهي تخريب ما هو جميل (الإنسان والطبيعة والمجتمع والثقافة النابعة من حياة الناس). تمّت عملية الانتزاع والإلغاء والتخريب هذه بحجة التطوير والتحسين والتمدين؛ تمّت عن طريق إقناع الناس بأن هناك مسارا أحاديا للتقدم، وأن كل ما يحدث ضمن العالم المهيمن هو تقدم. كان أفعل الأدوات وأكثرها تأثيرا في هذه العملية هو التعليم الرسمي بشكله الذي ساد خلال القرون الثلاثة الماضية، لم ينافس هذه الأداة في هذه العملية إلا التلفزيون، ونحن الآن نجد أنفسنا نُطحن بين الأداتين بلا هوادة.
تعني عملية الانتزاع والإلغاء والتخريب هذه تغييب الفلاحين. هم غائبون من الخطاب التربوي الفلسطيني غيابا شبه تام. تغنّينا منذ عقد السبعينيات بأننا من أكثر شعوب العالم حملَةً لشهادات جامعية. نعرف الآن أننا لا نستطيع طبخ الشهادات وأكلها، ولا نستطيع أن نكتب شعرا أو قصة أو أغنية من خلالها، وأننا نفهم العالم بالمقلوب إذا اعتمدنا عليها.
إن الاستمرار في الاعتقاد بأن هناك طريقا عالميا أحاديا للتقدم لم يعد له أي مبرر في الوقت الحاضر إلا السذاجة أو التعصب. وسواء أكانت سذاجة أم تعصبا، فالأمر سيان، إذ أن المشكلة عندها تكمن في رفض رؤية ما يحدث للإنسان والعلاقات والطبيعة من انتزاع وإلغاء وتخريب.
النقطة الأساسية في هذه الخاطرة هي حقيقة أن الإنسان يتغذى من التربة الأرضية والتربة الثقافية وأن العالم المعاصر هو محاولة مستمرة لانتزاع الإنسان من التغذّي منهما، وتحويله إلى إنسان يعتمد على مأكولات جاهزة ومنتجات ثقافية ضحلة ومعارف معلّبة، منفصل بعضها عن بعض... والتي تحتاج جميعا إلى مؤسسات وشركات ومهنيين وخبراء لتوفيرها.
هذه العلاقة بين الإنسان والمجتمع والأرض والثقافة كانت أول ما انبرى الانكليز إلى تمزيقه. ذكرت (في الخاطرة السابقة) كيف أن من أول القوانين التي وضعوها كان بشأن دخول ساحة الأقصى، والتي كان هدفها تمزيِق النسيج التاريخي بين مختلف الفئات في القدس بالذات. في هذه الخاطرة، أود التركيز على تغييب الفلاحين (وبالتالي تغييب معارفهم وفنونهم وطرق معيشتهم).
نتذكر سنويا المأساة التي خلّفها الانكليز في فلسطين على المستوى السياسي والعسكري (مثل وعد بلفور) ولكن ننسى – كما يظهر – المأساة التي خلّفوها من خلال انتزاع الناس من التغذي من التربيتين المذكورتين بأعلاه، وهو انتزاع أدى إلى هزيمتنا من الداخل. تمّ تحقيق هذه الهزيمة من خلال التعليم الذي زرعه الانكليز في بلادنا، والذي مزّق النسيج الاجتماعي والثقافي والروحي في المجتمع، وعلاقة الناس بالأرض، وطمس التعابير الحيّة التي تعكس حياتهم. وكما يظهر، كلما ازدادت درجة تعليم الشخص كلما ازداد بُعده عن التربتين – بل انسلاخه عنهما مع مرور الوقت.
مؤتمرات عديدة عُقدت، وما تزال تُعقد، حول التعليم الفلسطيني، لا نجد بينها إلا مؤتمرا واحدا طالب بتعليم يرتكز على الزراعة والعلاقة مع الأرض: المؤتمر الذي عقده فلاحو فلسطين في يافا عام 1929 لإعادة النظر في التعليم الذي فرضه الاحتلال الانكليزي. من الجدير بالذكر هنا أنه حتى شخص مثل خليل السكاكيني، والذي أعتبره من أخلص التربويين، لم ير مركزية الأرض في التعلم والعيش. دعا السكاكيني طلبته إلى السير على الأقدام عبر فلسطين للتعرف عليها، ولكنه لم ينظر إلى الأرض كمضمون للتربية العربية، ربما لأن الأرض لم تشكل حياته اليومية. اليوم، وبعد مرور 80 سنة على مؤتمر يافا، نجد من الضروري العودة إلى التساؤل ليس حول جودة التعليم أو نوعية التعليم أو أي صفة تربط التعليم بالاستهلاك، وإنما حول تعليم يعكس تناغما ضروريا لعافية الناس والمجتمع. وجزء أساسي من هذه العافية هو المجتمعات الفلاحية التي تعيش في الأرض ومن الأرض. لو نظرنا إلى ما يحدث الآن في فلسطين (وحول رام الله خاصة) نرى أن الأرض تتحول بسرعة إلى مادة استثمارية؛ أصبحت الأرض عاقرا لا تنبت إلا حجارة يطلقون عليها تنمية أو أسواق. من الضروري أن نتذكر بأن جذور هذا التحول تعود إلى العشرينيات من القرن الماضي، والتي أثارها الفلاحون عام 1929 ولكنها أُهملت تماما، ليس من قبل الانكليز فقط وإنما من قبل المتعلمين الفلسطينيين... وما زالت مهملة... مثلا، كل المقالات التي كتبت حول التعليم في شؤون فلسطينية أو في Journal of Palestine Studies خلال الفترة بين 1973 و 1993 لا تذكر الفلاحين لا من قريب ولا من بعيد، مما يجعلنا نستنتج أنهم في فكر التربويين لا أهمية لهم ولطرق معيشتهم ولمعارفهم، وبالتالي عدم اعتبارهم أحد أعمدة المجتمع. لم يطرأ أي تغيير على البذرة التي زرعها الانكليز، بل نحتضنها الآن بقوة وكأنها المنقذ الأكبر! تغييب من هم على علاقة يومية بالأرض يعكس غياب حكمة نحن بأشد الحاجة إليها...
بدون حكمة، لا يمكن أن تستوي الحياة – لا على مستوى الأشخاص ولا المجتمع ولا البلد ولا الثقافة؛ العلاقة مع الطبيعة تشكل أساس كل حكمة...
في معظم الحضارات القديمة – مثل الفرعونية والبابلية والهندية والصينية وحضارات القارات الأمريكية قبل الغزو الأوروبي – كانت الطبيعة والأرض بمثابة مرجع وأساس ومعيار؛ كانت الأرض مصدر رزق ومعنى ووجود وانتماء، كانت العمود الفقري لوجود الناس والمجتمع. تحويل الأرض إلى تجريدات وشعارات سياسية وقضايا لغوية ومؤسسية وإلى مادة للاستثمار ما هو إلا تخريب للحياة وإلهاء عما هو جوهري: الأرض كأساس والناس كمصدر لفهم ومعنى.
لذا، عندما أثار فلاحو فلسطين قضية الأرض وعلاقة الإنسان بالأرض وعلاقة الناس بعضهم ببعض، ابتداء بالعائلة، عكسوا وجسدوا حكمة من الصعب فهم كيف طُمست وما تزال، وكيف تحولت إلى شعارات ومصطلحات فارغة من أي مضمون. أتكلم هنا عن الأرض كمصدر رزق ومصدر غذاء ومصدر معارف وفنون ومصدر سعادة وعافية وحكمة... الكوارث التي نشاهدها حول العالم حاليا توقظنا الآن إلى أهمية الأرض والطبيعة كأساس للخروج من الوضع الكارثي الذي يسير وفقه العالم المعاصر...
سؤال هام مرتبط بالحكمة في العصر الحاضر وهو السؤال الذي أود طرحه للخاطرة القادمة: متى تكون المساعدة مناقضة لعافية الإنسان ومتى تكون منعشة له؟