إلزام الحكومات بتوفير تعليم وعدم إلزامها بتوفير ماء نقي! لماذا؟
كيف نفسر إلزام كل الحكومات بتوفير تعليم لكل الأطفال وعدم إلزامها بتوفير ماء نقي لكل الأطفال؟ هل يعكس هذا التوجه حكمة؟
عالم الاستهلاك مقابل عالم العافية... هذا ما أراه معيارا لفهم ما يجري، وللحكم على ما نفعل. الوضع في العالم يتطلب أن نميز بين ما يخدم الاستهلاك وما يتوافق مع العافية.
إذا فكرنا بالسؤال المطروح، من خلال هذا المعيار، نرى أن الأنظمة التعليمية التي سادت في العالم منذ 300 سنة على الأقل، وبدون استثناء، لا تسير فقط وفق قيم السيطرة والفوز ولا تخدم فقط نمط الاستهلاك في العيش وإنما تهيئ الأطفال والطلبة – خلال 12 سنة – لاكتساب أنماط في الفكر والإدراك والعيش تتوافق مع هذه القيم ومع نمط الاستهلاك. فتحويل المعرفة إلى سلعة، تُشترى وتُباع، وتحويل الإنسان إلى مالك ومستهلك لها، وتحويل قيمة الإنسان إلى شهادة تحدّد "سعره" في السوق، وفصل المعرفة عن الحياة... تشكل جميعا عناصر أساسية في نمط الاستهلاك في العيش. في المقابل، الماء مرتبط بالعافية، بل لعله أهم عنصر بالنسبة لعافية الأطفال. بعبارة أخرى، يرتبط توفير الماء بعافية الأطفال بينما يرتبط توفير التعليم بالسيطرة والفوز ونمط الاستهلاك. وبما أن العالم المعاصر يحكمه نمط الاستهلاك، يمكن أن نفهم لماذا هناك قوانين تلزم الحكومات على توفير تعليم للأطفال بينما لا توجد قوانين تلزم الحكومات على توفير ماء نقي لهم. فكلا الحالتين – فرض نفس المنهاج والمقياس، وعدم فرض قانون يوفّر ماء نقيا – يخدمان الاستهلاك. في الحالتين، العافية غائبة: العافية النفسية والعقلية غائبة نتيجة فرض نفس المنهاج والمقياس، والعافية الصحية غائبة نتيجة عدم توفير ماء نقي.
بالرغم من أن التعليم والماء يُعتبران في الاتفاقات الدولية حقّين من حقوق الأطفال، إلا أن هناك فرقا هاما بالنسبة لتعامل الاتفاقات مع الحقين. ويكمن هذا الفرق في أن التعليم حق ملزم على الحكومات بينما الماء حق غير ملزم. كل الحكومات ملزَمة بتوفير تعليم ولها الصلاحية لملاحقة الذين يتخلفون عن إرسال أطفالهم إلى المدارس، بينما لا توجد اتفاقات تلزم الحكومات على توفير مياه نقية لكل الأطفال وملاحقة من يسرقها منهم، مثل شركات الكولا والفنادق الكبيرة والتي يتوفر لها جميعا الماء بدون حدود. من بين الحالات القليلة التي من الضروري أن تتدخل فيها الحكومات، نراها لا تتدخل!
أستعمل كلمة استهلاك هنا لتشير إلى ما يسلب الناس مقوماتهم وقدرتهم على القيام بعمل ما يمكنهم عمله بأنفسهم، ويستبدل تلك القدرة بمؤسسات ومهنيين. معظم الأدوية تعطّل قدرة الجسم الطبيعية على الشفاء، لذا فهي أقرب إلى الاستهلاك منها إلى العافية. والتعليم الرسمي يسلب الأطفال قدرتهم البيولوجية على التعلم، لذا فهو أقرب إلى الاستهلاك منه إلى العافية. والمؤسسات الحكومية تسلب الناس قدرتهم على إدارة شؤونهم بأنفسهم، لذا فهي أقرب إلى الاستهلاك منها إلى العافية. أستعمل كلمة استهلاك لتشير أيضا إلى شخص يتعلم ليزيد سطرا في سيرته الذاتية (CV)، لا ليعمّق فهمه؛ أي تكون المعرفة عبارة عن معلومات ومهارات متفرقة لا تدخل في تكوين تناغم في حياته، والذي يشكّل صفة جوهرية في الحكمة. كذلك، أستعمل كلمة استهلاك عندما لا يوجد لدى الشخص سبب شخصي أو دافع ذاتي لما يقوم به، أو لا يعرف علاقة ما يفعله بنواح أخرى في الحياة. مثلا، كم من المعلمين يعرف لماذا يدرّس ما يدرّسه؟ سألت العشرات من معلمي الرياضيات: لماذا تدرّس المعادلات التربيعية؟ كان الجواب – بدون استثناء – إما لأنه موجود في المنهاج أو لأنه ينفعهم في الجامعة، دون أن ينتبهوا إلى أن مثل هذه الإجابات تعكس عبودية فكرية خاصة بالعصر الحديث، ولا تعكس كلمة "معلم" بالمعنى الذي ساد عبر العصور. كذلك الحال بالنسبة لمن يشتري خضرة من "السوبر ماركت" فهو لا يعرف من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، ولا كيف يؤثر ذلك على الطبيعة والعلاقات بين الناس وعلاقة الناس بالأرض. تنطبق صفة العبودية هذه أيضا على من يعملون في منظمات ضخمة ذات بريق يبهر الناس، مثل هيئة الأمم والبنوك والجامعات وموظفي الحكومات على اختلاف درجاتهم. كما تنطبق أيضا على ما ذكرته في خواطر سابقة، مثل السيفون والعلوم (بمفهومها السائد). فأغلب الناس لا يعرف أين تذهب الفضلات التي يخرجها ولا يعرف كيف تؤثر على البيئة أو على الأجيال القادمة، بل ولا يهمّه الأمر، لا من قريب ولا من بعيد. أما بالنسبة لمن يعمل في مجال علمي أو تكنولوجي، فهو كآخرين أمثاله يقوم عادة بما يمليه عليه رئيسه دون أي تساؤل أو تفكّر. كما قال أحدهم: "من الصعب أن تجعل شخصا يفهم أمرا إذا كان دخله يعتمد على عدم فهمه له"! كذلك الحال بالنسبة لاستهلاكنا للأخبار عبر الشبكات المرتبطة بمصادر سلطة.
[من بين المصادر التي أجدها أبعد عن الاستهلاك من غيرها، بالنسبة للأخبار، هو الموقع التالي: www.informationclearinghouse.info هذا إلى جانب الأخبار التي يمكن أن نحصل عليها من خلال الناس بالنسبة لما يجري حولنا.]
باختصار شديد، إذن، الإنسان المستهلك هو ليس بالضرورة شخصا غير منتج، وإنما إنسان لا يعي لماذا ينتج ما ينتجه أو لماذا يقوم بما يعمله أو ما هو تأثير ما يفعله على الحياة؛ هو إنسان لا يهمه صقل فكره ومشاعره وتعابيره؛ هو إنسان مسلوب من مقوماته وقدراته الطبيعية.
من الحكمة أن نسأل دوما فيما إذا كان ما نفعله يتوافق مع العافية أم يخدم الاستهلاك. وينطبق هذا على موضوعنا في هذا المقال: ماذا يمكن أن نعمله لاستعادة الحكمة بالنسبة لإدراكنا وتعاملنا مع التعليم والماء؟
تتطلب الحكمة، أولا وقبل كل شيء، إعادة النظر في القيم والأولويات التي نستهدي بها في حياتنا. وهذا يتطلب عدة أمور، منها الشفاء من الاعتقاد بأن هناك مسارا أحاديا للتعلم والتقدم، وتجنّب مقاييس تضع الناس على خط رأسي يدعي الموضوعية ويحدد قيمتهم. ويعني هذا – عمليا – إنهاء فرض منهاج أحادي على جميع الأطفال، ومقياس أحادي لتحديد قيمتهم. كما يعني استرداد جزء من ميزانية التعليم ووضعها في مرافق متعددة للتعلم، مثل توظيف أشخاص يجسّدون تعابير حضارية في حياتهم اليومية (مثل الحكواتيين، بغض النظر عما إذا كانوا يعرفون الكتابة والقراءة أم لا) كمعلمين ومعلمات، على الأقل في المدارس الابتدائية.
* * *
السؤال للخاطرة القادمة: قضايا ذكرتها في خواطر سابقة، وغيرها كثير، تعكس سهولة غريبة في تخريب وخداع العقول، خاصة ما كان منها مكوَّنا من نصوص (عبر كتب مقررة) ومن صور على شاشات (عبر أجهزة إعلام رسمية). ما هي بعض ’البذور‘ التي تُزرع في عقولنا فتفسدها وتخدعها بهذه السهولة؟