متى تكون المساعدة متناقضة مع عافية الإنسان وعافية المجتمع ومتى تكون متوافقة معهما؟
قصة هندية على طريقٍ مغبرّ في الهند، كان رجل يجلس كل يوم يبيع شرنقات. على الجهة الأخرى من الطريق، كان يجلس صبي يراقبه. في يوم من الأيام سأل الرجل الصبي: هل تدري الجمال الكامن في هذه الشرنقات؟ سأعطيك واحدة لتشاهد جمالها بأم عينك، ولكن من الضروري أن لا تلمس الشرنقة حتى تخرج الفراشة منها.
سُرّ الصبي كثيرا بالهدية وركض نحو البيت ليرقب الفراشة. وضع الشرنقة على الأرض. لاحظ أمرا مثيرا. رأى الفراشة تضرب بجناحيها الضعيفين على الغلاف القاسي حولها. شعر بأن الفراشة ستموت قبل أن تقدر على كسر الغلاف المسجونة فيه. أشفق الصبي علي الفراشة وأراد – بكل حسن نيّة – أن يساعدها، فكسر الغلاف.
اندلقت على الفور مادة رطبة قبيحة بنّية اللون، سرعان ما توقفت عن الحركة والحياة. فحزن الصبي كثيرا.
عندما علم الرجل الذي أهداه الشرنقة بما حصل، قال للصبي: تحتاج الفراشة، من أجل أن تقوى أجنحتها – لتصبح قادرة على حمل ذاتها – أن تضرب بأجنحتها على الغلاف الذي يلف جسمها، إذ فقط عن طريق وضع هذا الجهد تصبح الأجنحة قوية، وتصبح الفراشة قادرة على الطيران... مساعدتك لها منعها من القيام بالجهد الضروري لنموها، وبالتالي سلبها قدرتها الطبيعية وفرصتها الوحيدة للبقاء.
تعكس هذه القصة الوضع في المجتمعات الحديثة، تعكس فقداننا لحكمة غالية جدا ألا وهي أهمية عدم القيام بأي عمل أو مساعدة يمكن أن تسلب الناس والمجتمعات مما لديهم من قدرات طبيعية ومقومات ذاتية، اعتقادا منا (سواء عن حسن نية أم سوء نية) بأن ما نفعله هو عمل خير. هذه الأعمال تندرج عادة تحت اسم تنمية أو خدمات أو مساعدات، والتي تبدو وكأنها تعكس نيات حسنة إلا أنها غالبا ما تؤدي إلى أن يصبح الناس والمجتمعات غير قادرين على العيش بدون مؤسسات. لعل سلب الناس قدراتهم ومقوماتهم وطرق معيشتهم تحت ادعاء تطويرهم وتنميتهم وخدمتهم ومساعدتهم هو من أهم أسباب الخلل الذي نشاهده حاليا في المجتمعات حول العالم، وفي نفس الوقت، لعله أقل عمليات التخريب التي نعيها.
تشمل عملية السلب هذه مجالات عدة: سلب قدرة الناس البيولوجية على التعلم وقدرة الجسم على الشفاء، وقدرة الناس على إدارة شؤون الحياة اليومية والقيام ما يحتاجونه من ضروريات. كذلك، تشمل العملية سلب الأطفال قدرتهم على تكوين قوة داخلية عن طريق مساعدتهم في واجباتهم المدرسية. ولعل أسوأ أنواع السلب هو سلب الناس عناية بعضهم لبعض والمساعدة المتبادلة فيما بينهم، بدون واسطة مؤسسات ومهنيين، إذ أنه سلبٌ يؤدي عادة إلى تمزيق النسيج الاجتماعي الروحي الضروري لحيوية المجتمع وتماسكه وعافيته، وأيضا لعافية الناس النفسية، كما يؤدي إلى طمس روح التجاور والتحادث والضيافة والكرم، والتي ميزت مجتمعات ما قبل العصر الحديث الذي نشر الاعتقاد بأن الحياة مكونة من أفكار ومادة فقط!
المساعدة التي يشعر عن طريقها الطرف الذي يساعد أنه أفضل وأكبر شأنا من الطرف الذي يتلقى المساعدة هي مساعدة مناقضة لعافية الإنسان والمجتمع؛ هي مساعدة تسلب الناس كرامتهم. لذا، حتى تكون المساهمة متوافقة مع عافية الإنسان وكرامته، من الضروري أن تكون متبادلة ونابعة من الداخل.
أدى تمركز المساعدة والرعاية في مؤسسات وهيئات رسمية إلى تكديس السلطة والمال في أيدي قلة من الناس، مما جعل الحافز لما يعملونه هو مصالحهم الذاتية وليس عافية الناس الذين تدعي المؤسسات أنها تساعدهم. والوضع الفلسطيني – كالعادة – هو بمثابة مجهر يمكن أن نرى من خلاله ما يحدث في العالم الأوسع. فمثلا، الفترتان اللتان خبرتهما حيث كنا كفلسطينيين قادرين على القيام بما هو ضروري لحياتنا (وأتكلم هنا عن الضفة الغربية حيث كنت أعيش) هو عقد السبعينيات والانتفاضة الأولى. ما ميز الفترتين – رغم الأوضاع السيئة – هو وجود أمل لدى الناس، والذي نبع من الدعم المتبادل بين الناس، ومن علاقات جميلة فيما بينهم، ومن قيامهم بمهام الحياة دون مساعدات من خارج ما هو متوفر في المجتمع ولدى الناس، كما أنه نبع من الشعور بالمسؤولية للقيام بواجبات. ربما أسوأ ما نتج عن أوسلو على مستوى الناس هو تحويل الأمل إلى توقعات، والواجبات إلى مطالب، والقدرات إلى حاجات.
منذ عام 1949 كانت الكلمة السحرية التي سلبت الناس قدراتهم ومقوماتهم وكرامتهم وطرقهم في العيش هي كلمة تنمية. لم يكن هناك، مثلا، قبل عام 1949 أي برنامج في أي جامعة في أي بلد يحمل اسم تنمية. في المقابل، من الصعب جدا أن نجد جامعة واحدة في الوقت الحاضر لا يوجد فيها عدة برامج ودوائر لا يحمل فيروس التنمية! ما حدث عام 1949 هو إعلان ترومان – رئيس الولايات المتحدة حينئذ – أن الشعوب خارج الولايات المتحدة وغرب أوروبا غير نامين بما فيه الكفاية وأن على أوروبا والولايات المتحدة مساعدتهم في تنمية أنفسهم ومجتمعاتهم! لقد كانت تلك المساعدات بمثابة حصان طروادة الذي هزمنا من الداخل، وأعاد سيطرة الدول الغربية على مختلف نواحي حياتنا. ونحن – ببراءة لا مبرر لها – احتضنا تلك التنمية وما زلنا نحتضنها.
ذكرت في الخاطرة السابقة غياب الفلاحين من الخطاب التربوي والفكري والسياسي الفلسطيني، باستثناء الكلام عن مساعدتهم وتطويرهم وتنميتهم وتمدينهم – والتي تعني عمليا، كالعادة، سلبهم ما لديهم من قدرات ومقومات وإغراقهم في عالم الاستهلاك. بدأت عملية السلب هذه من خلال المدارس الأجنبية التي بدأت تظهر في فلسطين مع نهاية القرن التاسع عشر، وانتقلت هذه العدوى فيما بعد إلى أهل المدن الذين أخذوا على عاتقهم مساعدة وتطوير الريف، والذي أدى إلى سلخ الناس عن الأرض وتحويلها إلى سلعة!
كأي فكرة لا تتناغم مع عافية الإنسان والمجتمع والطبيعة، فإن المساعدة من فوق تؤدي في النهاية إلى تخريب مفضوح يفقد غطاءه المزيّف. ولعل ما يحدث في العراق هو مثال صارخ على هذا، إذ تمّ حتى الآن قتل ما يقارب من مليون ونصف عراقي وجرح ملايين آخرين وتشريد أكثر من 4 ملايين، وهدم قرى وأحياء بكاملها... تحت شعار مساعدة العراقيين في بناء ديمقراطية! معظم السياسيين والصحفيين والخبراء يذكرون هذا يوميا دون أن يرمش لهم جفن ودون أن يهتزّ وجدان السامعين مما يدلّ على عمق التخدير الذي تبثه المؤسسات الرسمية.
المساعدة التي فيها عافية الناس كانت وما زالت تتمثل في مساعدات متبادلة لا دخل للمؤسسات فيها، كما أنها تتمثل في التفاعل والتعامل بين الناس وفي أمور ذكرتها بأعلاه مثل الضيافة والكرم والتحادث، ففي مثل هذه الأوضاع يتمّ نمو حكمة وجدل نسيج اجتماعي روحي، واللذين بدونهما – أي بدون النسيج والحكمة – لا يمكن أن تستوي الحياة.
السؤال للخاطرة القادمة:
الحكمة تتطلب أن نسأل دوما: ماذا نخسر من جراء أي مكسب نجنيه؟