تجريدات لا تستمد معانيها من الحياة
دلائل عديدة تشير إلى سهولة غريبة في تخريب وخداع العقول، خاصة ما كان منها مكوَّنا من نصوص وصور (عبر كتب مقررة وشاشات إعلام رسمية). كيف تتم عملية خداع العقول بهذه السهولة؟
السؤال الذي طرحته الأسبوع الماضي كمقدمة لخاطرة اليوم: بعض ما ذكرته في خواطر سابقة، يعكس سهولة غريبة في تخريب وخداع العقول، خاصة ما كان من هذه العقول مكوَّنا من نصوص وصور (عبر كتب مقررة وشاشات إعلام رسمية). كيف تتم عملية خداع العقول بهذه السهولة؟
جزء كبير من المعرفة الحالية عبارة عن لغة وكلمات ورموز. الأبجدية ليست أداة محايدة، وبالتالي يمكن أن تكون اللغة أداة للفهم أو أداة للوهم. اللغة المهيمنة حاليا – بشكل لم يسبق له مثيل – هي أداة للوهم والتشويه والسيطرة والإلهاء.
سأختار ثلاث كلمات مستعملة بكثرة في العصر الحديث، للتوضيح: تعليم، تنمية، استراتيجية. لننظر إلى بعض العبارات التي يمكن تكوينها من هذه الكلمات:
-
استراتيجية التعليم في التنمية
-
استراتيجية التنمية في التعليم
-
التعليم واستراتيجية التنمية
-
تنمية التعليم الاستراتيجي
-
تعليم تنمية استراتيجية
-
الاستراتيجية في التعليم التنموي
-
تنمية استراتيجيات تعليمية
-
التعليم في التنمية الاستراتيجية
-
الاستراتيجية في تنمية التعليم
-
التنمية في استراتيجيات التعليم
-
التنمية الاستراتيجية في التعليم
-
التعليم الاستراتيجي في التنمية
يمكن بالطبع تكوين عبارات أخرى تحتوي على الكلمات الثلاثة، ولكن سأكتفي بهذا القدر. كذلك، يمكن إضافة كلمات أخرى شبيهة (مثل: تطوير، جودة، تميّز، إصلاح، خطة، شفافية) فنحصل على آلاف العبارات التي توهمنا بأنها تقول شيئا ولكنها، في الواقع، بمثابة ملهيات مليئة بإيحاءات إيجابية، ومكونة من كلمات تبدو على السطح علمية أكاديمية مهنية، تتطلب أجهزة إدارية ولها أبعاد اقتصادية، وذات معان عميقة ومعارف متقدمة تحتاج إلى خبراء لتوضيحها، ولكن عندما نتمعّن فيها نجد أنها – في جوهرها – عبارة عن ملهيات تشوّه وتعمي وتخدّر وتسمّم وتخدع... كلمات أشبه ما تكون بالمتغيرات الجبرية في الرياضيات، مثل س ص ع، والتي يمكن وضعها بأي ترتيب دون أي معنى ودون أي حرج، ونكوّن منها العبارات المذكورة بأعلاه، مثل التباديل في الرياضيات.
دور مثل هذه الكلمات هو إلهاء الناس عن أمور جوهرية في الحياة: تلهينا عن التعلم الذي – مثله مثل الهضم – يحدث كقدرة بيولوجية تولد معنا وتحدث في أعمق حالاتها بدون مناهج وتدريس وامتحانات وعلامات؛ وتلهينا عن تثقيف الذات بمعنى صقل الفكر والإدراك والمشاعر والتعبير والتعامل؛ وتلهينا عن وعي ما يجري حولنا وداخلنا مثل تخريب الطبيعة والعقول والنفوس وتمزيق النسيج بين الناس. كذلك، مثل هذه الكلمات تسلب الغنى في المعاني النابعة من الحياة كما تسلب الناس دورهم في أن يكونوا شركاء في تكوينها. موضوع الملهيات مرتبط بموضوع آخر يميّز العالم المعاصر، ألا وهو احتضاننا لما يضرّ بنا ويمزقنا ويحتقرنا ويهزمنا من الداخل مثل المأكولات السريعة، وبرامج التلفزيون، والتنمية، والدولة القطرية، واعتماد الموبايل كوسيلة أساسية للتواصل، واعتبار نتائج الامتحانات كأنها مقياس حقيقي لقيمة الشخص ومقدار معرفته.
العبارات، عبر التاريخ، كانت دوما ذات معنى. فحسب منطق أرسطو، كل عبارة إما صائبة أو خاطئة. أما "جلال الدين الرومي"، والذي اتصف بالحكمة، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك إذ قال: "ما وراء الصواب والخطأ، يوجد فسحة؛ لنلتقي هناك". كذلك، من أروع ما كتب حول موضوع الكلام والمعنى هو كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ (قبل 1200 سنة!) والذي أعتبره (خاصة الجزء الأول) كتابا هاما جدا في الوقت الحاضر وعلى عدة أصعدة، فالكتاب يعكس عالما يختلف جذريا عن العالم السائد الذي يحاول أن يقنعنا بأن هناك مسارا أحاديا للتقدم، و أننا نقع على نقطة متدنية منه، وأن الحاضر أفضل مما مضى بشكل مطلق، مما يجعل الكتاب هاما في استعادة الحكمة في جامعاتنا.
في الحضارة السائدة، خاصة منذ إعلان عصر التنمية عام 1949، بدأت تظهر لغة (متمثلة بالعبارات المذكورة بأعلاه) مكونة من كلمات يمكن وضعها بأي ترتيب دون أن يؤثر ذلك على أحد، لأنها تكوّن جملا لا تقول شيئا؛ لا هي صائبة ولا خاطئة ولا تقع ما وراء الصواب والخطأ، ولا تجسد بيانا ولا تتضمن تبيينا، ولا تخلق صورة في الخيال ولا معنى في الذهن، ولا تشير إلى أي شيء في الواقع، ولا تعكس خبرة، ولا يمكن ترجمتها إلى أسلوب حياة، ولا تاريخ لها ولا مرجعية؛ تجريدات لا تستمد معانيها من حياة الناس؛ لها كثير من الإيحاءات ولكن بدون مدلولات محددة. هذه الكلمات هي أداة رئيسية في أيدي الأكاديميين والمهنيين والسياسيين والخبراء؛ أداة يتم عن طريقها تخريب وخداع العقول. المؤتمرات والتوصيات والجامعات ووسائل الإعلام والوزارات والمؤسسات والمنظمات الدولية مليئة بمثل هذه العبارات التي تعكس طغيان التجريدات الحديثة، والتي – مثل حصان طروادة وجرثومة الإيدز – تقتل المناعة لدينا فتهزمنا من الداخل.
الحل، كالعادة، أبسط مما توهمنا به المؤسسات والمنظمات الدولية والخبراء والمستشارون؛ كالعادة، يكمن الحل في كون الناس عموده الفقري. وهذا يعني في حالة اللغة أن الحل يكمن في أن تكون اللغة أداة للفهم بدلا من أداة للوهم؛ أداة لصقل الذهن والإدراك والتعبير والمشاعر، ولجدل نسيج حي بين الناس، وليس أداة للسيطرة على العقول والإدراك والسلوك. وهذا يعني الشفاء من تجريدات لا تستمد معانيها من الحياة، واستعادة التفاعل الشفهي أساسا في العلاقات بين الناس. أما ما أراه مفيدا لهذا الشأن فيكمن في النظر إلى كل شخص على أنه شريك في تكوين فهم ومعنى. فالقدرة التي يملكها كل شخص – والتي تشكل الأساس في حماية عقولنا من الخداع والتخريب – هي الشراكة في تكوين فهم ومعنى. وهذا يعني الحذر من استعمال كلمات ليس لدى الشخص قصة أو خبرة تعكس معنى شخصيا لها. هذه الشراكة وهذا الحذر يشكلان عنصرين هامين في استعادة الحكمة.
* * *
السؤال للخاطرة القادمة: كيف نفسر اعتبار من يخرب سيارة مجرما بينما من يخرب الأرض والطبيعة تقدميا وتنمويا؟