من نحن

الرؤيا/المنطلقات

لقاءات و مجاورات

إصدارات

ملتقى فلسطين

 
 
   
     
الفشل والتخلف اختراعان
هكذا تُحدِّثُنا غزة
متى تكون المساعدة متناقضة
لماذا مُحي من الذاكرة الفلسطينية
تحاور الأديان أم تجاور الأديان؟
كيف نفسر اعتبار من يخرب سيارة مجرما
تجريدات لا تستمد معانيها من الحياة
إلزام الحكومات بتوفير تعليم وعدم إلزامها بتوفير ما
الفرق بين العلم والحكمة
عندما نرى الدنيا بالمقلوب!من الذي يحتاج إلى تغيير؟
أول الكلام
الفشل والتخلف اختراعان
مجاورات ابن عربي
 

الفشل والتخلف اختراعان

"الفشل" و"التخلّف" اختراعان إيديولوجيّان حديثان هدفهما السيطرة والفوز ولا يعكسان حقيقة في الواقع


إنّ أيّ مصنع يكون 38% من منتوجاته غير صالح، يغلق أبوابه، ما عدا مصنع التعليم حيث تتوسّع أعماله ويزيد الإقبال عليه!

تقدَّمَ للامتحان التوجيهيّ، هذا العام في الضفة الغربية وقطاع غزة (في فلسطين)، حوالي 86000 طالبًا وطالبة، ونُشر يوم 19 تموز/ يوليو إعلان رسميّ صادر من وزارة التربية والتعليم الفلسطينيّة (كما هو الحال بالنسبة إلى معظم وزارات التربية حول العالم)، يفيد بأنّ حوالي 38% من الطلبة الذين تقدموا للامتحان فاشلون! جريمة تُقترَف سنويّا في كلّ دول العالم ضدّ شبّان وشابات في عمر الثامنة عشرة، بعد أن يكونوا قد قضوا 12 سنة جالسين على أقفيتهم، ينظرون إلى كلمات على ورق أو شاشات، ولا يفعلون شيئًا بأيديهم وأصابعهم وأجسامهم، ويحاسبون بعد ذلك على كلمات ورموز يكتبونها تحدّد حياتهم المستقبليّة، وتُعامل وكأنها معرفة حقيقية، وعلى أنّها طريق التقدم والتطور (اعتبار الكلمات المكتوبة معرفة حقيقيّة هو كاعتبار صور مأكولات طعامًا حقيقيّا)! بعبارة أخرى، يتمّ تقييم الطلبة بناء على كلمات لا تعني شيئا في عالم الواقع، ولا علاقة لها بحياة الطالب. ما يُعْتَبَر معرفة في الوقت الحاضر – من صفّ البستان وحتّى الدكتوراه – يتكوّن في أغلبه من كلمات مجرّدة تحكم معانيها واستعمالاتها مؤسّساتٌ ومهنيون وخبراء... مرخصون. بينما لا يوجد فِعْل ولا سياق للمعرفة السائدة، إذ يُفْتَرَض أنّها عالميّة. وعندما يكون هناك فِعْل (مثلاً في الطبّ أو الهندسة) لا يتمّ ذلك عادةً وفق الحكمة، بل يكون محكومًا بالسوق.

لا أستطيع أن أفكّر بشيء أسوأ وأكثر تخريبًا للعقل والإدراك والمجتمع من تقييم الإنسان برقم بناء على كلمات لا تنبع معانيها من الحياة، بل من مؤسّسات. ويرافق تخريب العقول والإدراك والمجتمعات، من خلال تصنيفات أكاديميّة تُصنِّعها الجامعات، تخريبُ الأجسام والتربة من خلال أطعمة تُصَنِّعها شركات أغذية؛ وأنا لا أعرف شخصًا مستعدّا لوضع كاز (كيروسين) في سيارته (رغم أنّها تسير بالكاز)، ولكن ذلك الشخص، في أغلب الظن، لا يتورّع عن وضع أطعمة ضارة في مِعَدِ أطفاله دون تردّد أو شعور بالذنب كتعبير عن أحد مظاهر الغباء الذي تخلقه المدنيّة الحديثة! كذلك فإنّ الاعتقاد بأنّ ما يُعطى للطلبة في المدارس والجامعات هو معرفة تغذّي العقل، يشبه الاعتقاد بأنّ ما يعطى لهم من أطعمة مصنّعة يؤدّي إلى تغذية الجسم. يعكس هذان الاعتقادان مدى التخدير والتخريب (اللذين يميزان العصر الحاضر) في الفكر والإدراك. وما حيّرني منذ عقد السبعينيّات هو سهولة خداع العقل المعاصر من خلال كلمات ورموز تصدر عن سلطات ومؤسّسات رسميّة.

إنّ أيّ مصنع يكون 38% من منتوجاته غير صالح، يغلق أبوابه، ما عدا مصنع التعليم حيث تتوسّع أعماله ويزيد الإقبال عليه! آن الأوان، قبل فواته، لكي نخرج من حالة الغيبوبة والغباء والتخدير التي تضعنا فيها مؤسّسات التعليم والتقييم والأطعمة والأدوية والإعلام والسياسة، والأديان التي تفقد روحها وتتجمّد في مؤسّسات. هناك دراسات حول تصنيع مأكولات تعمّق الغباء عن قصد وتصميم من خلال كيماويّات (تماما مثل كثير من المعارف المصَنَّعة التي تؤدّي، تصميمًا، إلى غباء وضحالة فكريّة). كما أنّ الاعتقاد بأنّ كلمتي فشل وتخلّف تعكسان حقيقة في الواقع هو مثال على غباء مبرمّج. الحكمة غائبة كليّا عن المؤسّسات على اختلاف أنواعها، ولا أستطيع ذكر ناحية واحدة في التعليم الرسميّ متوافقة مع الحكمة!

ظاهرة الخداع والغباء التي نشهدها حاليا لم تكن منتشرة قبل استفحال مرض الأكاديميا في المجتمعات. لم ينبهر السكاكيني مثلاً بالمدارس الأوروبيّة والأمريكيّة، بل رآها على حقيقتها: إذلال للأطفال، إذلال ينتج عن عقابهم وتقييمهم من خلال أرقام، مما دعاه عام 1909 إلى إنشاء مدرسته الأولى في القدس ليس على غرار النموذج الأوروبيّ، بل وفق مسار يتناقض في الجوهر مع ذلك النموذج، حيث لم يستعمل امتحانات وعلامات وجوائز وعقابًا، وبالتالي لم يقسم الطلبة إلى ناجحين وفاشلين. بمعنى آخر، لم يشعر بدونيّة وتخلّف، بل شعر بخلل عميق في النظام الغربيّ. بالإضافة إلى ذلك، اعتبر السكاكينيّ اللغة والحضارة العربيّة، لا الانكليزية، البوتقة الأساسيّة للمعرفة، ورفع شعار "إعزاز التلميذ لا إذلاله" في مدارسه. وفي السياق نفسه، لم ينبهر فلاحو فلسطين بالتعليم الإنكليزيّ، ولم يشعروا بتخلّف تجاهه، بل رأوا فيه تمزيقًا للحياة وطالبوا بحماية أطفالهم منه [كان هذا موقف غاندي من بريطانيا إذ سمّاها "مملكة الشيطان" وذكر في كتابه "هند سواراج" أنّه يجب إبعاد كلّ من ينشر المدنيّة الانكليزيّة في الهند مدى الحياة، وحتى هذا لا يكفي للتكفير عن ذنوبه!].

لا أدري كيف تحوّل ذلك الوضوح، قبل مائة سنة، إلى ضبابيّة وغباء في الوقت الحاضر، حيث أصبحنا نعتبر الفشل أمرًا طبيعيّا، ونعتبر التخلّف أمرًا حقيقيّا؛ فمن الصعب جدّا، في الوقت الحاضر، إيجاد شخص في فلسطين (خاصة بيننا نحن حملة الدكتوراه في التربية) يرى أنّ الفشل جزء من أيديولوجيّا هدفها السيطرة على العقول، من خلال إذلال كلّ من يرفض أن يكون عبدًا لنظام تحكمه قيمتا السيطرة والفوز مثلاً. بل إنّ أغلب الناس حاليّا يؤمنون بأنّ الفشل يعكس حقيقةً، وأنّ فشل طالب في الامتحان التوجيهيّ ناتج عن كسل أو ضعف في قدرته العقليّة. وليس غريبًا في هذا الوضع ألاّ نسمع في أيّ بلد عن تظاهرات تطالب بإنهاء هذه الجريمة، والسعي إلى إيجاد تنوّع في مرافق التعلّم وطرقه حيث يختار الطالب المسار الذي يتوافق معه، وبالتالي ننهي إنتاج "فاشلين" إلى الأبد. إنّ التعليم الإلزاميّ (الذي يجبر الطلبة جميعهم على السير وفق طريق أحاديّ) أصبح حقّا في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، وأصبح فخرًا لأيّ حكومة تقهر الطلبة على السير وفقه. القضيّة لا تكمن في غياب جودة التعليم (كما يوهموننا حاليّا) وإنّما في فكرة التعليم التي بلورها "نبريها" قبل 500 سنة، وبدأ تطبيقها قبل 350 سنة (في فرنسا).

إنّ جرثومة التخريب في عالم اليوم هي الاعتقاد بوجود مسار أحاديّ عالميّ حياديّ موضوعيّ للتقدّم والتعلّم، والذي تقاس عبره قيمة إنسان وتنمية مجتمع. تقضي هذه الجرثومة على المناعة الداخليّة لدى الناس والمجتمعات بحيث يصبحون معرّضين لشتّى أنواع الأمراض المتعلّقة بإدراكنا أنفسَنا ومصدرَ قيمتنا ومعرفتنا، كما تؤدّي إلى تدمير عالمنا الداخليّ وتمزيق النسيج المجتمعيّ. من هنا، تتمثّل الحكمة في الوقت الحاضر بانتزاع أنفسنا من هذا الاعتقاد، واستعادة التعدّدية كقيمة جوهريّة في شتّى نواحي الحياة بدءًا بالتعلّم والمعرفة. ويعني هذا عمليّا السعي إلى استرداد جزء من ميزانيّة التعليم ووضعه في مرافق متنوّعة، بحيث يختار كلّ طالب المسار وفق ما هو شغوف به ويرغب في أن يحسنه. والجدير بالذكر هنا أنّ أقدم طريقة للتعلّم وأعرقها وأنجعها هي المجاورة، والمُغيّبة تمامًا من التربية والأكاديميا حول العالم، لكن، وبرغم تغييبها من المؤسسات، نجد أنّها ما تزال حيّة فاعلة في المجتمعات: فنلاحظ مثلاً أنّ الطفل الذي يعيش في بيت فيه عازف عود يتعلّم هذه القدرة عن طريق المجاورة.

من ناحية أخرى، يعمل آلاف الأشخاص حاليّا، في فلسطين، في التقييم وعملية فصل الناجحين عن الفاشلين، ويمكن تصوّر مدى الهدر الذي يحدث في الجهد والمال والوقت والإمكانات، ومدى التخريب والتمزيق اللذين يحدثان على الصعيد النفسيّ والنسيج المجتمعيّ، من أجل تحديد الناجحين والفاشلين وفق مقاييس ضحلة ممزِّقة مخرِّبة، يشار إليها بالتقييم! وكلما تذكّرت أنّني شاركت في هذه العمليّة من خلال وضع أسئلة رياضيات للامتحان التوجيهي في السابق، أشعر بخجل وألم وغضب. حاولت يومها أن أقنع الأستاذ ابراهيم صنوبر مدير الامتحانات، رحمه وسامحه الله، بعدم رغبتي بالاستمرار لكنّه أصرّ، ولم تكن قناعاتي بالعمق الحالي، لذا فعلت ما كان يوكله إليّ.

التخريب في العصر الحديث لا يمسّ العقل والإدراك والجسم وحسب، بل يمسّ أيضًا الهواء والتربة والأنهار والبحار والعلاقات والنفسيّات والمناخ. نشهد تمرُّدَ المحيطات والطبيعة بينما نضع رؤوسنا في الرمال بحيث لا نرى ما يحدث، حتّى باتت الحياة على الأرض مهددة. لم يعد من الحكمة الاستمرار بالعيش ضمن أوهام وخرافات المدنيّة الحديثة (التي بدأت بعصر "النهضة") والتي تشكّل فيها العلوم والرياضيّات والتصنيفات الأكاديميّة أدواتَها الرئيسة. وليس هذا الأمر سهلاً، لكن لا يمكن التغاضي عنه؛ فما يصدر عن المؤسّسات يُضْعِف القدرة على ربط الأمور والظواهر، وعلى ملاحظة أخطار وأنماط وعلاقات في نواح مختلفة من الحياة، ويبعدنا عن كلّ ما هو طبيعيّ وحقيقيّ. لقد صارت الشرذمة والتمزيق صفتين مميّزتين للحياة المعاصرة، وعدم معرفة مصدر غذائنا ومعلوماتنا أصبح أمرًا عاديّا، من هنا ترى أطفالنا أذكياء في استعمال أجهزة إلكترونيّة، لكنّهم لا يعرفون لماذا تفعل ما تفعله، ولا عواقبها، فقد فقدوا القدرة على الربط.

إنّ أهمّ ما يميّز الإنسان الحرّ في المرحلة الحاليّة – سواءٌ أكان عربيّا أم غير عربيّ– هو تحرّره من فكرة التقدّم وفق مسار أحاديّ عالميّ، وتحرّره من مقاييس تقارن الناس والمجتمعات على خطّ عموديّ، والتحرّر من كون التصنيفات الأكاديميّة والمصطلحات المهنيّة والخرافات الحديثة (مثل الفشل والتخلّف) المرجعَ والمعيار. إنّنا نحتاج إلى حكمة لمحاربة هذه الأوهام الحديثة، وبدون حكمة كهذه، يستطيع العقل السير بسرعة هائلة بشكل متهوّر، وهذا بالضبط ما حصل في أوروبا وندفع ثمنه حاليّا. الوقت الحالي مناسب، بل بحاجة ملحة لاستعادة روح "بيت الحكمة" البغداديّ في حياتنا، والذي جسّد الحكمة لدينا بإنشائه في بغداد قبل 1200 سنة...

يشكّل ما سبق تلخيص خبرات وتجارب واجتهادات عبر 40 سنة (منذ سنة 1971 على وجه التحديد) في فلسطين، وتعمّقت قناعاتي نتيجة زياراتي وعملي مع أفراد ومجموعات وجامعات في 29 دولة ما بين 1997 و 2007. وقد أوصلتني هذه الخبرة إلى الاقتناع بأنّ التعليم الرسميّ المركزيّ المؤسّسي هو، وليس الدين، أفيون الشعوب؛ هو بمثابة مرض الإيدز على صعيد العقل والإدراك، إذ يغزوهما ويقضي على مناعتهما الداخلية فيفقد الناس القدرة على مقاومة الهمجيّة المعاصرة - والتي يشار إليها بالتقدّم- وحماية أنفسهم منها. لن ننجح في مقاومة الاحتلال المعرفيّ، والذي تشكّل التصنيفات الأكاديميّة والمقاييس العموديّة أسلحته الرئيسة، من خلال أدواته التي هي أصلاً سبب المشكلة، وإنّما ننجح عبر انتزاع أنفسنا من اعتبار الغرب مرجعًا ومعيارًا، وعبر التأمّل في حضارتنا لاستلهام ما يمكن أن يساعد في عمليّة الشفاء والبناء. في بحثي الطويل لإيجاد مخرج من أصوليّة العلوم وعبوديّة التقييم، وجدت الحكمة المخرج من أصوليّة العلوم. أما بالنسبة إلى المخرج من عبوديّة التقييم، فتمثل لديّ في عبارة للإمام علي، قرأتها لأوّل مرة في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، ووجدت فيها ضالتي المنشودة: "قيمة كلّ امرئ ما يُحسِنه؛" فكلمة يُحْسِن في اللغة العربيّة غنيّة بالمعاني: الإتقان والجمال والعطاء والنفع والاحترام، ما يعني أنّ قيمة المرء لا تكمن في امتحان ورموز وأرقام، وإنّما في ما يحسنه، أي ما يفعله بشكل فيه إتقان وجمال ونفع وعطاء واحترام. عندما قرأتها صُعِقْت: لدينا مثل هذه العبارة منذ 1400 سنة، وما زلنا نفتّش عن رؤيا للتعليم العربيّ؟! فالعبارة كافية ووافية للتعبير عن رؤيا في التربية وغيرها، ألم يقل النفري: "كلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة؟"

واستزادة في الموضوع نعلم أنّ كلمة فشل، بمعناها المؤسّسي، تمّ اختراعها قبل ما يزيد عن 300 سنة مع نشوء التعليم الحديث (في فرنسا). أمّا كلمة تخلّف (والتي أدّت إلى تخريب ربّما يفوق تخريب كلمة فشل) فتعود جذور اختراعها بمعناها المؤسّسي السائد حاليّا إلى خطاب "هاري ترومان" لدى استلامه رئاسة الولايات المتحدة في 20 كانون الثاني/ يناير عام 1949، حيث أعلن أنّ معظم الشعوب تحتاج إلى تنمية، وأنّ أمريكا مستعدّة للمساعدة؛ فبعد الحرب العالميّة الثانية احتاجت الولايات المتحدة إلى وسيلة ومبرّر لاستمرار سيطرتها على الشعوب ونهب مقدراتها، وكانت الوسيلة إنشاء "البنك الدوليّ" و"صندوق النقد الدوليّ" العام 1945، وكان المبرّر "المساعدة" في انتزاع هذه الشعوب من حالة "التخلّف" عن طريق مشاريع كان أولّها "النقطة الرابعة" التي بدأت العمل عام 1950. كان اختراع "تخلّف،" ككلمة مهنيّة أكاديميّة، أمرًا ضروريّا لاستعمال مصطلح "تنمية" بمعناه الحاليّ. ويُذكر هنا أنّه لم يكن هناك أيّ برنامج في أيّ جامعة يحمل كلمة "تنمية" في عنوانه قبل 1949، على عكس الوضع الآن، إذ لا توجد جامعة أو مؤسّسة، أو مهنيّ أو خبير أو سياسيّ، لا يتحدّث عن الـ"تنمية،" بل إنّ معظم الجامعات حول العالم تمنح اليوم شهادات باسم "دراسات تنموية!"

إنّ مرور الزمن أوجد لكلمتي "فشل" و"تخلّف" ملكيّة تابعة لفئة مرخّصة تمارس من خلالها طبقيّة وعنصريّة وأصوليّة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، تتمثّل بفصل الناس إلى ناجحين وفاشلين، ومتقدّمين ومتخلّفين، من خلال شهادات تصدرها مؤسّسات رسميّة، وتتحوّل وصمة عار في حياة الشخص أو المجتمع. ولإضفاء العلميّة والموضوعيّة والعالميّة والحياديّة على هاتين الكلمتين، كان من الضروريّ الاستعانة بأكاديميين وباحثين يستعملون الرياضيّات كأداة لمسخ قيمة المرء ومقدار تنمية المجتمع إلى رقم. فالهدف من اختراع الكلمتين هو تحقير الناس والمجتمعات من أجل السيطرة عليها ونهب مقدراتها. وتتمثّل الأصوليّة، الكامنة فيهما، في أنّ حكم لجان رسميّة، بأنّ شخصًا ما فاشل أو مجتمعا ما متخلّف، هو حكم نهائيّ يعاقب عليه الشخص والمجتمع، ليس في الآخرة بل في الوقت الحاضر وبدون هوادة. ونحن، في قبولنا وصم شخص بأنّه فاشل، أو وصم مجتمع ما بأنّه متخلّف، نزرع بذرة دمار في ذلك الإنسان وذلك المجتمع. أمّا السؤال، الذي يدعو إلى الشفقة، "ما البديل" فإنّما يعكس حالة التخدير وانعدام المقاومة.

هل يمكن يمكن تلخيص المدنيّة الغربيّة بأنّها تحسين المظهر وتخريب الجوهر؟ أجزم بذلك، وأوضح بمثال من مجال آخر:"السيفون؛" فالسيفون اختراع رائع، لكن يصعب ذكر اختراع كان أكثر تخريبًا للحياة منه! فهو يسلبنا الماء الشحيحة جدّا في بلد مثل فلسطين؛ وينقل فضلاتنا التي أتت من التربة إلى مكان بعيد بدلاً من أن يعيدها إلى التربة، وبالتالي نخسر فضلاتنا ونخسر التربة، كما أنّه يلوّث البيئة المحيطة. كلّ هذه الخسائر من أجل أن تظهر غرفة المرحاض نظيفة! تخريب أربع نواح في جوهر الحياة من أجل تحسين مظهر الحمام! ألا توجد طرق يكون فيها الحمام نظيفًا دون مخاسر؟ طبعا يوجد، ولكن...

اختراع السيفون يوضح الفرق بين العلم والحكمة. هو بلا شكّ إنجاز علميّ باهر، لكنّه يفتقر إلى الحكمة. وينطبق هذا على كثير من إنجازات العلوم السائدة، إذ أنّ عواقبها السيئة أكثر بكثير من حسناتها: فالطبّ الغربيّ مثلاً، في أغلبه لم ينْمُ بشكل متوافق مع الطبيعة ومتناسق مع الخليقة، بل يتعامل مع الأمراض من خلال أدوية، لمعظمها آثار سيئة لكن مغيّبة. ولا نجد مناهج علوم تتكلّم عن الثمن الذي ندفعه نتيجة الانجازات العلمية؛ نقرأ عن المكاسب ولا نسمع عن المخاسر، فيصير حالنا كحال تاجر يحسب ما يكسبه ولكن لا يطرح ما يصرفه. لا يعني ما أقوله –طبعًا- إهمال ما اخترعه الغرب، بل النظر إلى منجزاته كأدوات ومهارات تقنيّة، وليس كسيّد يملي علينا ما نفعله وما له قيمة؛ مرجعيتنا ليست الغرب بل الحكمة والتي يرتبط معناها بالمكان والزمان والسياق.

وأختم برجاء موجّه إلى كلّ شخص، ولا سيّما الطلبة: ضع قائمة بالكلمات التي تستعملها أو تسمعها يوميّا وتأمّل في معانيها. فكّر في الكلمات التي من الأفضل تجنّبها، والكلمات التي تتطلّب منك تكوين معنى لها بناء على خبراتك واجتهادك. ذلك ينطلق من أنّ أهمّ حقّ، وقدرة، ومسؤوليّة لدى أيّ شخص، هو حقّه وقدرته ومسؤوليّته في أن يكون شريكًا في تكوين معاني الكلمات التي يستعملها أو يسمعها. معظم ما نشهده من تخريب وأزمات، في الحياة المعاصرة، تمّ بشكل رئيس من خلال السيطرة على الكلمات والمعاني والإدراك، أي من خلال ما يمكن أن نسمّيه "احتلالاً معرفيّا،" والذي يشكّل، في رأيي، أخطر أنواع الاحتلالات، لأنّه يدخل في العمق ومن الصعب ملاحظته، كما أنّه أساس للاحتلالات الأخرى. وفي هذا تشكّل المؤسّسات بتصنيفاتها الأداة الرئيسة في هذه السيطرة وهذا الاحتلال. مشكلتي مع المعرفة الغربيّة تكمن في أنّها سجنت الحكمة وأطلقت العنان للعقل أن يسير دون لاجم. وكلمة عقل بالعربيّة جذرها "عَقَلَ،" أي دور العقل هو لَجْمُ الإنسان من عمل أيّ شيء دون التفكّر في عواقبه. أما وسيلة اللجم فهي الحكمة، إذا اختفت الحكمة يسير العقل مثل حيوان هائج: يخرّب ويخرّب بحيث لا يسلم شيء منه، وهذا ما نراه في شتّى نواحي الحياة المعاصرة. ولكنّ عقولنا المرتبطة بنصوص وشاشات صعبٌ عليها رؤية هذا.

كثير مما ذكرته يتطلب إسهابا وأمثلة محسوسة، لها متابعة في مقالات لاحقة...




 
 

من نحن | إصدارات| لقاءات و مجاورات | الرؤيا/المنطلقات | البوم الصور

 
 اتصل بنا

Copyright © 2009 Arab Education Forum , All Rights Reserved