تحاور الأديان أم تجاور الأديان؟
 
السؤال الذي طرحته في الأسبوع الماضي هو: نسمع الكثير هذه الأيام عن حوار الأديان. هل يتم – في رأيك – جدل نسيج حي وحيوي وجميل بين الناس عن طريق التحاور بين الأديان أم عن طريق التجاور بينها؟ هل يؤدي الحوار عادة، من خلال خبرتك، إلى فهم أعمق أم إلى تباعد أكبر وتصلّب في الرأي أشد؟

جاء في مذكرات "واصف جوهرية" أنه عندما دخل الجنرال الانكليزي "أللنبي" مدينة القدس في نهاية الحرب العالمية الأولى، ورحّب به الناس، كان أول ما قاله في تجمّع استقباله: "الآن انتهت الحروب الصليبية"؛ أي، بعودة الانكليز إلى القدس!

القصة لا تنته هنا، إذ كان أول أمر عسكري وضعه الانكليز بعد احتلالهم فلسطين يتعلق بدخول ساحة مسجد الأقصى، بحيث أصبح – ربما لأول مرة في تاريخ القدس – يُسأل الشخص عن دينه قبل دخول المسجد وساحته. برّر الإنكليز ذلك بحجة ضمان حقوق الجميع! من الجدير بالذكر أن هذا القانون ما زال ساريا حتى هذا اليوم.

هذه القصة توضح، أولا، الطريقة الخبيثة التي استعملها الانكليز (كعادتهم في أي مكان دخلوه) لتمزيق النسيج بين مختلف الفئات في المجتمع. كان ذلك القانون البذرة الأولى في محاولتهم زراعة الطائفية في فلسطين. وتوضح القصة، ثانيا، كيف أن الادعاء الذي استعمله الانكليز – أيضا كعادتهم – هو عمل الخير واحترام حقوق الجميع وتحديث وتمدين المجتمع؛ أي؛ تخريب أي مجتمع غالبا ما ينتج عن قوانين تبدو على السطح وكأنها تقدمية. وتوضح القصة، ثالثا، وهذا هو موضوع هذه الخاطرة، الفرق بين تجاور الأديان (والذي كان سائدا قبل الاحتلال الانكليزي) وبين تحاور الأديان (والذي يرفعه اليوم المتعلمون منا كشعار، غير مدركين عواقب هذا التحول الذي يبدو بريئا وحياديا على السطح). وهذا الفرق بين التجاور والتحاور يعكس بدوره أمرا رابعا توضحه القصة، ألا وهو الفرق بين التعددية والطائفية، فروح التجاور يخلق عادة تعددية، بينما أسلوب التحاور يؤدي عادة إلى طائفية. وتوضح القصة، خامسا، الفرق بين روح الضيافة (وهي الروح التي كانت تتمتع بها ساحة الأقصى قبل الاحتلال الانكليزي) وبين أوامر قادمة من سلطة والتي غالبا تفرّق وتمزّق وتخرّب (وهي صفة لازمت الانكليز في تعاملهم مع الشعوب التي استعمروها).

قبل الاحتلال الانكليزي، كان أهالي القدس – من مختلف الطوائف والأديان والتوجهات والخلفيات – يتقابلون يوميا في ساحة الأقصى؛ يتحادثون ويتعارفون ويتسامرون؛ يتعرفون بشكل طبيعي على "عوالم" مختلفة متجاورة في القدس... ومن خلال هذا التفاعل الحي اليومي، كان يُجدل نسيج جميل وحيوي بين الناس، وتتكون علاقات احترام متبادلة فيما بينهم. كذلك، كان الأطفال يلعبون، بعضهم مع بعض، ويتعرفون على بعض بدون تصنيفات.

عن طريق التجاور كان الناس يتعرفون على الأديان من خلال تصرف الناس وليس من خلال حوارات لفظية فكرية لا علاقة لها بأسلوب حياة الناس وتعاملهم، والتي يكون هدفها عادة هو محاولة البرهنة على أن دينا معينا هو أفضل من الأديان الأخرى بشكل مطلق. كما يظهر، المبدأ الذي كان يحكم علاقات الناس قبل الاحتلال الانكليزي هو المتضمن في القول الشائع: "كل واحد على دينه الله يعينه".

ذكرتني هذه القصة بحدث تاريخي ألا وهو دخول ألفونصو الثاني طليطله، وكان مزمعا على طرد المسلمين منها، ولكنه دُهش لما رآه. رأى مجتمعا يضم المسيحيين والمسلمين واليهود وغيرهم، يعيشون في تناغم جميل حيوي فيما بينهم، مما دعاه إلى تغيير هدفه وأطلق على نفسه لقب "ملك الأديان الثلاثة"! كان التجاور بين الناس من مختلف الأديان في طليطله هو جوهر العلاقة بينهم؛ كان جادلا أساسيا لنسيج جميل فيما بينهم.

ما كتبته بأعلاه لا يعني عدم أهمية التحاور، إذ أن التجاور يلازمه عادة تحاور ولكنه تحاور مرتبط بتصرف الناس وتعاملهم، بعضهم مع بعض، ومرتبط بقصص وأحداث حقيقية؛ أي أن المجاورة تخلق عادة حوارا بين أصدقاء. العكس ليس بالضرورة صحيحا، إذ لا يخلق التحاور بين الناس عادة روح تجاور، ولا يسهم عادة في جدل نسيج حي جميل بين الناس. روح التجاور مرتبطة بالضرورة بروح الضيافة، بما في ذلك استضافة أفكار وطرق عيش ربما تكون غريبة على الشخص؛ فالضيافة أصلا تتعلق باستضافة الغريب.

بعبارة مختصرة، التحاور الذي يلي أو يلازم التجاور والضيافة يؤدي عادة إلى تعميق العلاقة، بينما الحوار الذي يتكون من ألفاظ ومفاهيم لا علاقة لها بتصرف المتحاورين ولا تستمد معانيها من حياة الناس، يؤدي عادة إلى تباعد بين الناس.

باختصار شديد، المجاورة والحكمة جارتان...

السؤال للخاطرة القادمة:
لماذا لا يوجد أي ذكر للمؤتمر الذي عقده فلاحو فلسطين عام 1929 بشأن التعليم، والذي كان يتضمن حكمة أكثر من غيره من المؤتمرات التي عقدت حول التعليم منذ ذلك الحين؟