الفرق بين العلم والحكمة
استعمال السيفون كمثال
تساؤلات طرحتها الأسبوع الماضي: ما هو الفرق بين العلم والحكمة؟ "السيفون" كمثال... هل كان اختراع "السيفون" حكيما أم وبالا على البشرية؟ وهل استعماله دليلا على تقدّم أم تخلّف؟ وهل كلمة "تخلّف" تعكس واقعا أم أنها فكرة مخترعة؟
عندما جاء الانكليز والفرنسيون كغزاة إلى منطقتنا، عيّرونا بالتخلف. كان من بين ما استعملوه لإشعارنا بالنقص والتخلف، هو موضوع المصارف الصحية، والتي على رأسها عدم استعمالنا للسيفون. وبالفعل، فقد أبهرنا السيفون كما أبهر شعوبا أخرى كثيرة حول العالم، وتبنيناه وكأنه الرمز الأكبر للتقدم. هل كان السيفون نعمة على المجتمعات أم نقمة على البشر ما زلنا نرفض رؤيتها؟ هل استعماله دليلا على التقدم؟
الآن، وبعد ما يقارب من 150 سنة على اختراعه بشكله الحالي، بدأ الكثيرون يعون أن اختراع السيفون ربما كان أسوأ اختراع على الإطلاق. ربما يبدو هذا القول غريبا ومستهجنا، ويسأل البعض: ما هو البديل؟
يشكل السيفون بلية كبيرة على البشرية؛ يسلبنا أغلى ما نملك: 40% من الماء المستعمل في البيوت يُستعمل من خلال السيفون لنقل فضلات الإنسان، والتي أُخذت أصلا من التربة. وهذا يعني أنه إلى جانب خسارتنا للماء، نخسر أيضا فضلات الإنسان، وبالتالي نخسر التربة التي خرجت منها تلك الفضلات، إذ ينقلها السيفون إلى الأنهار والبحار والوديان، فتخسر التربة مواد غنية وتتلوث البحار والأنهار، وتؤدي العملية إلى قتل العديد من الأسماك. أي: بدلا من إرجاع الفضلات إلى التربة، تُنقل إلى البحار والأنهار مما يعني خسارة وتلويث في آن واحد!
فكروا في الموضوع خارج الأطر السائدة المألوفة: أغلى ما تملكه منطقة هو الماء والتربة والأنهار والبحار وفضلات الإنسان؛ نخسرها أو نلوثها جميعها في كل سحبة سيفون، دون أن يرجف لنا جفن بأن ما نفعله هو جريمة ضد أنفسنا وضد الطبيعة وضد الأجيال القادمة! والأبأس من هذا وذاك أن مثل هذا الأمر مغيب كليا من المؤسسات التعليمية ومما يسمى ب"مجتمعات المعرفة" التي "يُدوِشنا" بها التنمويون والتربويون ودعاة التقدم والتكنولوجيا على اختلاف أشكالهم. عن أي معرفة يتحدثون؟ وأي تعلّم يعنون؟ كيف يمكن تغييب مثل هذا الأمر دون أن يلاحظ المتعلمون ذلك ؟ كيف يمكن خداع العقل بهذه السهولة؟ وكيف يمكن إلهاء الإنسان إلى هذا الحد؟ يعكس هذا التغييب وعدم الوعي أمرا خطيرا، هو أيضا مغيّب، ألا وهو تخريب العقول عن طريق كلمات ورموز تبدو براقة وعلمية على السطح، وعن طريق التركيز على معارف مرتبطة بالاستهلاك وطمس معارف مرتبطة بالعافية واستمرار الحياة على الأرض.
من هنا، يشكل موضوع السيفون مثالا رائعا لتوضيح الفرق بين العلم والحكمة. العلم يرى الأمور منفصلة عن بعضها البعض. يسأل العلم، مثلا، كيف نبني أفضل شبكة مجاري، وكيف نصنع أفضل مرحاض، ولكنه لا يسأل عما يحدث للتربة والماء والأنهار والأجيال القادمة. لا يسأل عن الثمن الذي ندفعه جراء المكاسب التي نجنيها، لا يسأل عن العواقب، يهتم بالإنجاز والربح. مشاريع كثيرة تحمل اسم إنجاز وترفع هدف التميّز، لا تسأل عما يحدث للناس والمجتمعات والطبيعة، فالمهم هو إنتاج سلعة أو خدمة للسوق. في المقابل، تسأل الحكمة باستمرار عن ترابط الأمور. بعبارة أخرى، حتى نبني مراحيض وشبكات مجاري نحتاج إلى علوم ومهندسين ومؤسسات وشركات. أما السؤال عما إذا كان من المناسب أن نبني هذا، فيحتاج إلى حكمة.
ربما من الجدير بالذكر هنا الفرق بين إدراكنا للعقل في العالم المعاصر وإدراك العرب له منذ آلاف السنين. العقل في العصر الحاضر هو أداة للسيطرة والفوز والسير نحو الهدف في أقصر وقت ممكن وأكبر ربح ممكن. في اللغة العربية، يرتبط العقل بالجذر "عَقَلَ"، أي "لجم"، وبالتالي هو مرتبط بالتروّي والنظر في العواقب والتفكّر فيما إذا كان من الحكمة أن نقوم بعمل ما أم لا.
ربما من الجدير بالذكر أيضا أن الادعاء بأن السيفون أداة تطوير للحياة هو مثل الادعاء بأن التنمية أداة تقدم. والتنمية التي أعنيها هنا هي التي دخلت قواميس اللغات جميعا بعد الخطاب عام 1949 الذي ألقاه "ترومان" (رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حينئذ) حين تولى الرئاسة. شدّد ترومان في خطابه على أن المشكلة في العالم تكمن في تخلف المجتمعات خارج أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، وأن واجب الدول "المتقدمة" المساعدة في تنمية الدول "الغير نامية بما فيه الكفاية". لم يذكر أبدا أن المشكلة تكمن في نمط الحياة والحروب التي يؤدي إليها ذلك النمط مثل الحرب العالمية الثانية!
كلمة "تنمية" – مثل كلمات أخرى عديدة – استعيرت من لغة الناس اليومية، بمعانيها الغنية والمتنوعة، وأصبحت كلمة مهنية، يحكم معناها خبراء ومؤسسات، واختُرعت لها مقاييس تضع الناس والمجتمعات على خط رأسي لقياس مدى تقدمهم أو تخلفهم! دخلت كلمتا "تنمية" و"تخلف" إلى الجامعات وأصبحتا موضوعين هامين جدا في الأوساط الأكاديمية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. أصبحت معاني الكلمتين بعد 1949 ’مفبركة‘ ومسيطر عليها من قبل مهنيين وخبراء وأكاديميين يعملون في خدمة من هم في مراكز قوة وسيطرة يحكمها الجشع. من هذا المنطلق، فإن كلمة "تخلف" هي كلمة مخترعة وليست كلمة تستمد معناها من حياة الناس. أما الضرر الذي لحق بالمجتمعات منذ اختراعها لا يقل عن الضرر الذي نتج عن اختراع السيفون. اختراع السيفون سلب المجتمعات من مقوماتها المادية مثل الماء والتربة، ولوّث البحار والأنهار؛ واختراع التخلف سلب الناس من مقوماتهم الثقافية، فلوّث العقل والإدراك والنفس والروح. [كتبت مقالا حول الموضوع، تجدونه في http://www.qattanfoundation.org/pdf/1564_9.pdf أود هنا فقط إعادة كتابة الفقرة الأولى من ذلك المقال: "في العام 1949، عندما كان عمري ثماني سنوات، أُصبتُ ب"عدوى التخلف"، دون أن أدري! فجأة، تحولتُ في نظر العالم من فلسطيني طُرد مع عائلته قبل تسعة أشهر من بيته في القدس وتشرد مع من تشرد من فلسطين (كجزء من جريمة لا تزال مستمرة؛ فسرقة الأراضي، وقلع الأشجار، وسجن الناس وتعذيبهم لم يتوقف يوماً واحداً!) إلى شخص صفته (underdeveloped) ’غير نامٍ بما فيه الكفاية‘!"] أي أن "التنمية" بمعناها السائد منذ 1949 هي كلمة مخدِّرة، محت من أذهان الناس تاريخاً طويلاً من التدمير، وحولت أنظارهم إلى كلمة تستبطن استمرار احتقار الناس والمجتمعات والحضارات، ولكنها مغلفة بأغلفة تبدو حسنة مثل "المساعدة" و"التقدم". من هذا المنطلق، لا تختلف عن دور السيفون.
ألا يذكرنا هذا بالوضع الحالي مع اختلاف في الكلمات؟ في العام 1949، رُفع شعار "الحرب ضد التخلف" ليبرر الاستمرار في السيطرة على العالم ونهبه؛ واليوم، ترفع نفس الفئة شعار "الحرب ضد الإرهاب" لنفس الغرض!
أخيرا، أود أن أعود للسؤال: ما هو البديل للسيفون؟ وجوابي دوما لمثل هذا السؤال هو: لا يوجد بديل، بل بدائل... عشرات البدائل. ولكن، كالعادة، تبقى هذه البدائل مغيّبة لسبب بسيط: عدم توافقها مع عالم الاستهلاك. في زيارة لي لصديق في جنوب المكسيك، رأيت لأول مرة مرحاضا يعمل وفق طريقة لا تستعمل الماء (ذكر لي اسمها بالانكليزية dry latrine)، وفي نفس الوقت لا توجد رائحة ولا خطر منها على الصحة، ولا تهدر الماء وفضلات الإنسان، ولا تُفقِر التربة ولا تلوّث البحار والأنهار ولا تحتاج إلى مهندسين لبنائها. هناك بالطبع طرق عديدة أخرى، أما ما يحدد أيها الأفضل في مكان ما فيعتمد على ظروف المكان والثقافة والمجتمع. من بين الأسئلة التي سمعتها في حياتي، لا يوجد سؤال أجده أكثر ضحالة في الفكر وفقرا في الخيال من السؤال: ما هو البديل؟ ما هو البديل للمدارس؟ وما هو البديل للسيفون؟ وما هو البديل للحدود بين الدول؟... أسئلة تعكس تعطيل قدرة الخيال على رؤية بدائل لما هو سائد ضمن نمط الاستهلاك في العيش. جزء هام من الحكمة هو استعادة هذه القدرة.
السؤال للخاطرة القادمة: كيف نفسر إلزام كل الحكومات بتأمين تعليم لكل الأطفال وعدم إلزامها بتأمين ماء نقي لكل الأطفال؟