تجربة في الدراما والمسرح التعليمي
سمر دودين
أنا عملي في المسرح وأعبر عن نفسي من خلال المسرح وليس من خلال الكتابة، ومن الصعب الحديث عن شيء هو عبارة عن منتوج فني لم يشاهده أي منكم. اعمل مسرح بأسلوب الورشة، وهذا هو الجزء الذي أحب ان اتحدث عنه هنا. الأمر الثاني الذي أقوم به هو أنني معلمة دراما واسست منهاج مدرسي لتوظيف الدراما كوسيط للتعلم لكن بالمحافظة على خصائص الدراما كشكل فني بكافة المراحل العمرية في مدرسة في عمان اسمها المدرسة الاهلية للبنات. وقد انتهت تجربتي معهن قبل سنتين لانني، مثل وسيم، اكتملت لدي الحلقة في المعنى وبدا لي أنني اقارع الحيطان في مؤسسة تربوية علماً ان هذه المؤسسة رائدة تشجع الفنون.
انا جدي اسمه اكرم وستي اسمها آمنة وهما مهمان جدا في حياتي. جدي لانه رجل ادب خلف عندي دائماً حب الادب وفي نفس الوقت هو حكواتي فكان دايماً عندي منذ صغري حاجة لأن اكسر النص واكسر الكلام والمحتوى واكسر اللغة واعبر بشكل آخر. ولأنني تربيت بين ولدين الكبير منم في سنه والصغير منهم في سنه والتعبيرلدى الأولاد دائما بجسمهم فكان جزء اساسي من نمائي ان أجد طرق اعبر فيها باستخدام جسدي لانه كان علي أن اركض كي الحق بصخر واقفز كي اسبق سهل وكان علي دائماً أن اتحرك في اطار وجود مساحة لي كبنت وان يكون لي مساحة كجسد.
درست في امريكا فنون مسرحية وكانت تحديداً في مجال الدراما ودراما الطفل وهناك بدأت اكتشف مساحة النص الجسدي الذي عبر عنه وسيم بالكلام بشكل افضل بكثير مما استطيع أن اعبر عنه انا. ولما رجعت إلى الاردن لم استطع ان أعمل مع الوسط الفني لانه وسط تسيطر عليه الذكورة ولم استطع ان اعمل مع الرجال في هذا الوسط ولم استطع ان اتناغم مع النساء في هذا الوسط المحترف ووجدت نفسي في هياكل لا اعرف أين أذهب بها، فذهبت عند معلمتي التي كانت تعلمني دراما واسمها مارغو ملتجيان وكانت رائدة مسرح الطفل الاردني. أمسكت بيدي فقلت لها: "أنا أحب أن اعمل مع الاطفال والشباب وأريد أن أجلس مع شخص استطيع ان أتحدث معه براحة ونستكشف سويا الحياة والتعبير وقيمتها،" فاقترحت علي أن أذهب معها إلى المدرسة الاهلية للبنات وهناك بدأت تجربتي.
عملت مدة 5 سنوات من حياتي (من عام 1985 حتى 1990) كمعلمة دراما: كنت البهلوان والباحث والمفتش، وحقيقة لم تكن لدي المرجعية النظرية الت تحدث عنها وسيم لاني كنت قادمة من مجال المسرح ومن الارتجال في عالم المسرحإلى عالم الطفل وعلم نمو الطفل، وقرأت كثيرا و"تعبت على حالي كثير"، وحفظت اللغة التربوية كتير منيح وبدأت أتحدث بلغة تربوية تقنعهم وفي الحقيقة كان اقصى درجات فرحي انني حين أدخل غرفة الصف كنت قلب الكراسي واقلب الطاولات أو امسك الطالبات واطلعهم في الشارع نعمل اشي مع بعض والحقيقة انا بلعب مع الاطفال وبلعب معهم وأبني معهم الدراما الخاصة بهم والمنحى الذي أسير وفقه هو منحى ضخي جدا.
التجربة التي أحب أن أتحدث عنها اليوم هي تجربة خاصة جدا وحميمة على قلبي وهي ورشة الدراما للفئات العمرية ما بين 14 – 17 سنة وهي فئة المراهقة، وأنا الآن عمري 37 سنة لكني أحس ان بنائي ثابت في ذلك العمر . هناك عنفوان في هذه المرحلة، هناك حاجة ملحة لتحديد الهوية، هناك جسد فيه طاقة يريد أن يحمل، يريد أن "يشيل"، يريد أن يعبر ويكون له دور، لكن بالمقابل يجد كتب ومعلمين وصفوف. بالتالي قمت ببناء برنامج الدراما للمرحلة الاساسية كبرنامج موازي للمنهاج واختصرت على نفسي الطريق بأن قلت بأن هذا منحى له علاقة بالفن وإذا رغبتم أن تسموه دراما في التربية فليكن، وإذا أردتم أن تسموه محفز للتعليم فليكن، لكنه في نهاية المطاف وقت يعبر فيه الاطفال ويطلع منه منتوج كتابي ومنتوج تعبيري ومنتوج رسم وكله في النهاية يصب في العملية التعليمية التعلمية.
مع شباب وبنات الورشة قررتا ان علينا أن نجلس سويا ونقرر ما علينا عمله. نهج الورشة ببساطة هو ان يجتمع الشباب ومن خلال عمليات الاسترخاء والتنفس والجلوس في مساحات ليس فيها معوقات مثل هذه الاشياء حولنا وعلى الارض نبدأ في الحديث عن هواجسنا والاسئلة التي في داخلنا والأمور التي تسكننا زنبحث في هذا العالم الفردي الداخلي الذي هو عبارة عن تداخل كل العوالم الأخرى ونبدأ نشكل سؤال محوري يصبح مادة للارتجال والتعبير بالجسد والصوت وبالرسم وبالتشكيل والرقص والموسيقى من ثم ينتج عن هذا السؤال عرض درامي لا يمكن أن نسميه عرض محترف، فالفنانون المحترفون يسمونه مسرح مدرسي، والفنانون التجريديون الذين يستعملون هذا الاسلوب يسمونه فن. اما التربويون فيحبون أن يسموه تكوين وبناء وتشكيل شخصية الشباب. والحقيقة بالنسبة لي فما اقوم به معهم هو أنني ألعب واللعب معهم جدي وحميم وصادق ومؤلم احياناً ومفرح جداً احياناً، لكننا في النهاية نعمل مسرح أو نهج.
بدأ هذا النهج يتكون سنة 93، ومع أنني بدأت العمل بالدراما منذ عام 1985 إلا أنني وجدت لدى الطلاب رفض تام للنص. حاولت أن أحضر لهم نصوص تأمليه وغيرها لنبدأ بها لكنهم رفضوها. فبدأت بالجسد وبحاجات الجسد وبالعالم الذي يسكن الجسد. أول تجربة عملتها في مدرسة تنبني نظام التعليم بلغتين، وكان الطلاب فيها من الشباب والبنات الاردنيين المتغربين تماما، وسميناً التجربة "انتم مين"، وكانت اول تجربة اشتغلها باسلوب الورشة. وكان السؤال الذي بقي يلح علي هو قضية الهوية الشخصية. وتضمنت التجربة ادخال لنص لسعد الله ونوس وهو (الفيل يا ملك الزمان) الذي عبر بالنسبة لهم عن "مين احنا، وشو احنا" ، وكان الجواب "نحن تاريخ الخيانات." بعد هذه التجربة لم أستطع أن أستمر في هذه المؤسسة لانها كانت تتبني نظام اردني – انكليزي، ولكنه في الحقيقة نظام إنكليزي، وعرفت أنني لا أستطيع الاستمرار فيها وأنني سوف أموت هناك فعدت إلى المدرسة الأهلية التي بدأت فيها معلمة واسست لورشة الدراما مع شباب وشابات المؤسسة. ورشة الدراما كانت بين مدرستين تحديداً المطران والاهلية وكنا نعقد اجتماعات مع فئات من الشباب من خارج المدرسة لغايات البحث والاطلاع والعصف الفكري، وشكلنا مجموعة عروض مسرحية. العرض الاول كان اسمه "الرحلة إلى اين؟" سؤال العرض كان مرتبط بموقف الشباب من الصراع العربي الاسرائيلي ومشروع السلام. الصورة المحورية التي خلقها الشباب كانت قطار وحيد الكل مضطر أن يركبه ويركبوه بوعد انه يقف في محطات لكنه لا يتوقف. العرض كان من لا شيء: لا يوجد نص، كل ما يراه المشاهد ويسمعه إن كان موسيقى أو لغة أو تعبير جسد أو رمز، كله انبنى من لا شيء.
هذا هو التكوين والتشكيل خلال الورشة. في السنة التالية أنتجنا عرض آخر عن عائلتين: الاولى عائلة معلم رومنسي دمرت كل احلامها والثانية عائلة تاجر، واحتوى النص الحوارات بين ابناء العائلتين. كانت القضية عن احلام الشباب وما يحدث لها حين تصطدم بارض الواقع، حين تصطدم بالكبار بالام وبالاب وبالمجتمع، ماذا يحدث لها؟ وأين نحن في سياق هذا الواقع؟ كان هناك شخصية عزيزة على قلبي كثيرا انخلقت في هذا السياق اسمها زينة وهي تختلف عنهم كلهم، كلهم يقولون كلاما مفهوما الا زينة تدور مثل العصفور، والكل يعتقد بأنها مهووسة ومجنونة وفي النهاية تقول لهم: "مات العصفور، مات، مات العصفور، طعميته سكر وجوز ولوز لكنه طار بس انا هلق بعرف انه مات وبتفكروني مش رح اقدر أطير بس انا رح أطير فيكم وبلاكم انا رح أطير بهالحارة وبلا هالحارة وبعمان وبلا عمان بهالعالم وبلا هالعالم رح اطير رح افرد جناحاتي وأغمض عيوني رح اطير." كل الناس في المدرسة زعلوا كثير لأنها تريد أن تطير لوحدها، هذا صوت فردي ما بصير يطير، حالة العنفوان الذاتي لازم تكتم انفاسها، مش لازم زينة تطير، و"انتعل سنسفيل" زينة.
من ثم انتقلنا إلى السنة التالية وبدأوا بصياغة قصة حب، يريدون أن يتحدثوا عن الحب اللي بصير بين البنات والأولاد. وأنا أركز كثيرا على الجسد، وكان بعض المشاركين معي منذ سنتين وبعضهم جدد والجسد بالنسبة لهم لا يعود له حدود ويبدأون بالتعبير بشكل حر. وفعلا دخلنا في حوار حول قضية حساسية العلاقة بين الشاب والبنت وبدأوا يتحدثوا عن قصة حب وفجأة وجدت البنات قد دخلوا بقضية الهوية الجنسية للفتاة المراهقة واصبح موضوع العرض "كلام معلق في الهوا".
في السنة التالية كان الموضوع عن البنت الانثى لما "بتيجيها العادة" وتصبح امرأة، ما الذي يتغير فيها؟ هواجسه،ا عالمها، حدود العالم الخاص بها، الاصوات الخارجية والداخلية التي تسمعها؟ وعملوا الصورة الرمز وكانت دمية محورية مقنعة تتحرك وتخرج منها الطفلة الوليدة الحية الحرة التي كانت تعبير جسدي حر في السياق. هذه الدمية طوال الوقت تتفاعل مع قصص اربع بنات كل واحدة منهن تتحدث عن موقف صغير مرتبط بعلاقتها مع جسمها وتتمتم وتقول: "خلص ماما ما بدي اياه"، ودخلنا في سياقات واقعية وغير واقعية متداخلة لكن في الفصل الأخير يكون قرارهم (وهو يحمل في طياته الكثير من العواطف) ان يزيلوا القناع ويقطعوا كل الثياب الزائدة على جسم الدمية لكي تتحرر، لكنها تكون قد انتقلت الى مرحلة ثانية ويبقى الكلام "معلق بالهوا". في خلال عملي أحاول أن يكون هناك أقل قدر ممكن من "التلوث"، أي بمعنى أنني لا أريد من أي شخص التدخل ليقول "هذا بيصير وهذا ما بيصير."
كانوا يسألونني: "هل انت متزوجة؟ هل لديك شيء ضد مؤسسة الزواج؟ هل لديك أبناء؟ ما الذي تفعلينه معهم؟" والحقيقة أن المدرسة دعمتني لانه في النهاية كان هناك منتوج يشارك في المهرجان المسرحي لكن في السنة اللي قبل الاخيرة وحين سافرنا مع هذا العرض إلى بيروت وعدنا بدأت أحس أنني أحتاج أن اشبك مع أكثر من شخص، وبالفعل شبكت مع المرشدة التربوية ومع باحثة انترولوجية اسمها لمياء الراعي وعملت نموذج صغير موازي لعمل المدرسة وبدأت احس أن عليهم أن يخرجوا قليلا من حالة "نحن والجماعة"، وانتجنا آخر عرض من عروض الورشة وهو "تجوال ذات" وهو كان عرض حركي بحت بوجود اقل قدر ممكن من الكلام واكبر قدر ممكن من التعبير الجسدي والرمزي وتداخل كل العناصر الفنية الموسيقية والصوتية والضوء والعتمة. كانت القضية ببساطة رحلة فتاة مراهقة إلى طفولتها المبكرة والعقبات الملحة التي واجهتها في طفولتها المبكرة، وكيف تتجسد الذاكرة المكبوتة في شخصية تأخذ الرمز المرتبط بها وتخبئه في الكيس في كل مرة يحدث اتصال وتواصل بينها وبين الآخر الذي قد يكون رجل أو امرأة واستخدمنا الاقنعة في هذا العرض واشتغلنا كثيرا على التعبير الحركي.
الآن، عدت وجمعت بعض الطالبات اللواتي عملت معهن في الثمانينات وبدأنا رحلة جديدة باسلوب الورشة. في الورشة نقوم بأشياء كثيرة: نقرأ ونكتب ونتفاعل ويكون كل ذلك وليد حاجة للتعامل مع سؤال شخصي بالنهاية هذا السؤال بجمع الكل أو الجماعة. وأنا أومن ان التعبير من خلال الفنون مهم جداً وهو قد يأخذ اشكال وانواع مختلفة لكن هناك ضرورة لوجود تماسك للشكل الفني لا اقبل ان اتنازل عنه ولا أرضى بأقل منه.
وجدت نفسي في النهاية شخص مختلط العناصر: فلا انا فنانة في مساحة الفنانين المحترفين لان ما أقوم به هو أنني أبني مع الناس تعبير خاص بهم، ولا انا تربوية في مساحة التربويين، ووجدت أننا محب كثيرا ان نفتش عن هياكل لنجد أنفسنا فيها وجزء اساسي من خصوصية عملي بالنسبة لي هو هذا المزيج المختلط الذي يبقيني في حالة توتر دائم مرتبط بالهوية التي تكونها أنت والتي يلزمك بها الآخرين بشكل أو بآخر أو يسقطوها عليك..
أنا في عملي كمخرجة لم افرض على الشباب اكثر مما لدي من وسائط فنية امكنهم من خلالها التعبير عما يريدون، وكان طول الوقت هناك عملية مناقشة وجدال حاد. طوال الوقت كنت في علاقة ندية معهم بمعنى اننا نتخانق مع بعضنا البعض لأننا كنا نحب بعضنا البعض..
أحب أن أعرض عليكم صور من بعض عروضي: "تجوال ذات" و"كلام معلق في الهوا". أعتمد كثيرا في عملي على الصورة ,احب أن أعرض عليكم بعض الصور لابواب قديمة في عمان التي استخدمتها في ورشات عملي. وأحس ان التعبير ان كان دراما أو رقص أو مهما كان يحتاج إلى ادوات بسيطة. في الحقيقة الشباب والصبايا الذين يعملون معي في الورشة أحب أن أعرضهم إلى فن التصوير وانواع من الموسيقى. قد يقول البعض أن هذا منحى نخبوي لكني أعتقد بضرورة امتلاك بعض المعرفة المرتبطة بالفنون بشكل عام. جزء اساسي من رسالتي ان اوصل لهم قدر المستطاع من معرفتي وتجربتي، وهذه ببساطة تجربة الورشة.