تعبير اللفظي كأداة للتطهر النفسي عند الأطفال
د. زهرة أحمد حسين
عندما يعانى الطفل من نزلة برد يعرف الوالدين تماما ما يجب عمله: القيام بعرضه على طبيب الأطفال. لكن عندما يعانى الطفل من مشاكل نفسية أو سلوكية فالأمر أكثر تعقيداً، ويتطلب علاجه الحصافة والصبر، والابتعاد التام عن أسلوب التوبيخ القاسي والعقاب.
في أعوامه الثلاث الأولى كانت أكثر السمات وضوحاً في تصرفات ابني سامي هو عصبيته، وسرعة النرفزة والبكاء المتكرر ولأسباب تناقض بعضها البعض. فإذا ط‘لب منه ترك اللعب والجلوس إلى طاولة الطعام بكى، وإذا انتهى من الأكل وأخذ لغسل يديه نرفز. إذا أخذ للروضة بكى عند بابها رافضا دخولها، وإذا حان موعد انصرافه منها بكى رافضاً مغادرتها. لم يكن سامي ليرضى أن يقترب الأطفال الآخرون من ألعابه، وكان يغضب غضباً شديداً إذا أخذ أحد إخوانه أو أحد أصدقائه شيئاً من صندوق الألعاب الكبير.
ويوماً في بداية الصيف، عندما كان عمر سامي حوالي الثلاث سنوات والنصف، أدركت أن مشكلة العصبية عنده قد بلغت حداً مستفحلاً يتوجب وضع حل جذري لها، مرة والى الأبد وعلى نحو حاسم. فعندما دخلت المنزل بعد عناء يوم عمل طويل استقبلتني ولولة أخيه عبدالعزيز الذي يكبره بعامين. فقد تشاجرا على لعبة ما، وكانت ردة فعل سامي هو عضه عضة قاسية سببت له ألماً كبيراً. وشرعت في رحلة البحث عن الحل السليم. في البداية استشرت نساء العائلة لعل خبرتهن في تنشئة أبنائهم الذين تجاوزوا مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب تتضمن مفتاح الحل. لكنهن جميعاً وجدن الحديث في الموضوع فرصة لتخمين اسم القريب الذي أورث سامي طبع العصبية والعناد، وهي بحسب رأيهن وراثة لا علاج لها، لكن قد يجدي معها بعض القصاص وكثير من التأديب. لجأت إلى مكتبة كلية التربية بجامعة الكويت لعلني أجد ضالتي فوجدت أبحاثاً أكاديمية حول المشاكل النفسية والسلوكية لمرحلة الطفولة مذيلة بإحصائيات معقدة، لكنى لم أجد كتاباً يعلمني أسس التعامل الحصيف والواقعي مع طفل معافى بدنياً لكنه يعانى مشكلتيّ التوتر والعصبية.
ووجدت نفسي في موقع محيّر، فمن أمامي الحتمية التي تذهب إليها نظرية وراثة الطبائع ومن خلفي رفوف من تنظيرات كتب أكاديمية تعجز عن إسعاف الموقف الذي كان يؤرقني، وهنا قررت الاعتماد على حدسي والتعويل على ما امتلك من معلومات في علم اللغويات (أو علم اللغة).
بدا لي جلياً أن ما ينبغي أن أحققه هو مساعدة سامي على استبدال عادة البكاء بعادة التعبير الفعال عن الذات، فهي أفضل وسيلة لتطهير الذات من الغضب والغيظ والمشاعر السلبية. ورسمت هذه الخطوات العملية لتحقيق غايتي المنشودة.
حددت أولاً القاعدة الذهبية المطلقة التي يجب أن أكررها على مسمع طفلي، بنفس الكلمات الموجزة التي يسهل تذكرها، وبنفس النبرة التوكيدية الهادئة كلما انتابته نوبة نرفزة حول أهمية التعبير ودلالته، ولخصت هذه القاعدة بالعبارة القصيرة البسيطة "الشاطر يتكلم". وحرصت أن يكون مضمون العبارة إيجابي وتشجيعي وأن لا يقوم على قاعدة النهى والنهى الشائعة، والتي تتلخص بالجملة الأمرية "لا تبكى".
لتوكيد هذه القاعدة الذهبية وترسيخها في ذهن طفلي كنت أتبعها بعبارات توكيدية أخرى قصيرة، لها جرس مميز ووقع رنان على الأذن. فكنت أقول له بلهجتي الكويتية بصوت هادئ ونبرة صبورة "ما يصير حنّة ودندرة"، "ما يصير حنّة وربربة"، (أي لا يجوز الضجيج والكلام المختلط الذي لا يفهم منه شيئاً). وتوحي لفظ كلمتي "دندرة" و "ربربة" بمعنى الكلمتين وهما، من ناحية، تحاكيان بشكل فعال صوت التعبير السريع الذي هو أقرب منه إلى اللغو، ومن ناحية أخرى، تجذبان حاسة السمع عند الطفل، ومن هنا فهما تجعلانه ينصت ويتفكر بالكلمتين وبدلالتهما.
حرصت أن أساعد سامي في تحديد ومعرفة مشاعره الذاتية الخاصة وإيصالها للآخرين. فالحيرة في تحديد الشعور السلبي الذي ينتاب الذات هو بعينه عنصر يؤدى إلى تفاقم التوتر النفسي. فكنت أطرح عليه أسئلة واضحة تتطلب إجابات قاطعة حول تحديد العامل الذي نغص عليه وعكر مزاجه، فكنت أسأل: "هل أنت جوعان؟"، "هل أنت حرّان؟" (تشعر بالحر)، "هل أنت نعسان؟"، "هل أنت زعلان؟". وبعد معرفة العامل الذي نغص مزاجه، كنت أطلب منه أن يكرر بعبارة واضحة سبب النرفزة، كأن يقول "أنا نعسان". بعد اعطائه الإجابة كنت أحدثه عما يجب أن يطلبه في موقف كهذا.
عندما كان سبب البكاء والعصبية يتعلق "بالزعل"، كنت أجلس معه لنتحدث عن الموقف الذي أدى إلى هذا الشعور. وكنت أعلم سامي خلال حديثنا أسلوب (أو بالأحرى فن) سرد الحكاية بتتابعها الزمني والمنطقي. لنستهل السرد كنت أسأله "أنت ليش (لماذا) زعلان"؟، "شنو السالفة (ما الحكاية)؟" ولنمسك الخيط الأول من الحكاية كنت أبادر برسم الحدث الأول فأقول : "كان سامي مستانس (فرحان) يلعب في الغرفة، بعدين شنو صار؟"، فيروى سامي الحدث التالي. ثم أسأله عن الحدث الذي يتلوه، وهكذا إلى أن نصل إلى النهاية التي أغاظته.
كنت أسعى أن تنمو الحصيلة اللغوية لسامي وأن يكتسب تعبيرات بليغة تشبع رغبته في توصيل ما يشعر به بفعالية. فعلى سبيل المثال علمته كلمات مثل "أذية" "كدّر". فكان يقول "كنت مستانس وعزيز كدّرني"، ما أحب أسامح الولد لأنه أذاني".
عندما كان سامي يتجاهل تعليماتي حول أهمية التعبير الواضح فيتكلم باكياً كنت أتعمد تخفيض صوتي حتى أجبره أن يخفض صوته ليستطيع سماع ما أقوله حول الفعل الذي سأتخذه بشأن الموقف أو الشخص الذي سبب له الكدر. وفي المرات التي كان يصر على البكاء والكلام والشكوى في آن واحد كنت أقول له بصوت هادئ أنني لم أفهم شيئا مما يقول وعليه أن يعيد ما قاله. وبعد الطلب ثلاث مرات إعادة ما قاله كان هو بنفسه يشعر بالملل، فيكف عن الدمدمة والغمغمة ويشرع في الحديث بأسلوب واضح ومنضبط.
كنت أحرص أشد الحرص أن تتوفر له أسباب الراحة النفسية، فيأكل جيداً، وينام ساعات كافية، ويلعب مع إخوانه وأصدقائه، ويخرج للحديقة ليلهو بدراجته أو بالمرجوحة، وأن يصطحبني في الزيارات التي تتعلق بشراء مستلزمات المنزل، وكنت أسمعه كلمات المديح والإطراء عندما يتصرف بشكل حسن.
استمريت على هذا النهج سنة كاملة، وأدركت في يوم شتائي جميل ما قطعه سامي من شوط في مهارة التعبير. كانت جارتنا الأجنبية قد أهدتنا بمناسبة رأس السنة نبات منزلي جميل له أوراق خضراء وحمراء. وكان أحد أبناء الجيران في زيارتنا. ولسبب غير معلوم حلا لهذا الطفل أن يقوم بقطع الأوراق الحمراء للنبات، وهو أمر أزعج سامي كثيراً. وكان المفاجأة أنه بدلاً من البكاء والتنرفز والعراك كان الحديث التالي: سأل سامي الولد إن كان يحب أن "يشلع شعره" (يقتلع شعر رأسه)، وكان رد الطفل هو النفي القاطع، فشرح له سامي انه عندما "يشلع" ورقة النبات فكأنما "شلع شعرها". ثم اختتم حديثه بجملة استنكارية، فقال للطفل: "أنت أذيتها، ليش البلاسة؟" (أي ما الداعي لفعلة إبليس هذه).