|
|
الرقص والكتابة والتعلم
سيرين حليلة
حين قصصت شعري قصيرا جدا قبل فترة قال لي كل من رآني: " كم شجاعة أنت!" كنت أستغرب من هذه الملاحظة، فما الشجاعة في الشعر القصير جدا للفتاة في هذه الأيام؟ لكن يبدو أن الشجاعة تكمن في الجهل، أو أن الجاهل شجاع بالسليقة، لا ادري أيهما الأصدق. المهم، شجاعتي كانت من جهلي، جهلي بأن الشعر القصير جدا (كما هو شعري الآن)، يحتاج إلى شجاعة. فيبدو أننا نتحامى بشعرنا، نغير فيه إذا اكتأبنا، نغطي به وجهنا إذا كنا لا نرغب برؤية احد، أو ان يرانا أحد، وبشكل عام فهو كالملابس، يعطينا حماية نفسية.
تذكرت حينها تجربتي في تعليم الرقص. فحين يطلب مني أيا كان أن أعلمه/ها الرقص أبدأ بأن أقول له/لها: إرفع/ي يديك إلى الأعلى أولا ومن ثم ابدأ/ي بالرقص. جربوها بأنفسكم وستلاحظون الفرق. دون أن نعلم اي حركات محددة، فقط الشعور بالتحرر من الذراعين على جانب الجسم، الذراعين اللذان، هما أيضا، يعطياننا شعورا بالأمان والحماية: نغطي وجهنا، صدرنا، عرينا فيهما، نمسك بالآخرين لنشعر بالأمان، أو نضربهم لنشعر بالثأر. التخلص من هاتين الذراعين هي المرحلة الأولى من الرحلة الطويلة نحو الوصول إلى علاقة روحانية مع الجسد في الرقص.
بدأت حياتي مع الرقص منذ كنت في الخامسة من عمري، حين كنت أراقب أخواتي وهن يستمعن إلى الموسيقى ويرقصن في المنزل. كان الرائج حينها في فلسطين الموسيقى الهندية (والأفلام الهندية). وكنت أتحرك وأقلدهما. فيما بعد، وحين بلغت الرابعة عشرة وكنت قد عشت معظم حياتي في رام الله تحت الاحتلال الاسرائيلي شكلنا في المدرسة أول مجلس للطلبة وكنت عضو فيه ممثلة عن الصف العاشر. كنا نحضر لاحتفال الربيع السنوي، وقررنا أن نشكل فرقة للدبكة الشعبية، وكنت أعرف بعض الأعضاء في فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية حينها وكانت قد تأسست الفرقة قبل سنة من ذلك التاريخ. جاء أحدهم ودربنا، كنا مجموعة من 8 طالبات، وتعلمنا خطوات الدبكة التقليدية الفلسطينية وما يرافقها من أغاني وطنية. فيما بعد، اخترنا اسما للفرقة "أبناء الدموع"، وصرنا نقدم عروضا في مناسبات مختلفة خارج المدرسة، وكنا أول فرقة دبكة للبنات تقدم عروضا خارجية في مدن مختلفة من فلسطين. بعد ذلك، انضم بعضنا إلى فرقة الفنون بينما استمرت فرقة "أبناء الدموع" كفرقة مدرسة الفرندز لسنوات طويلة فيما بعد.
في تلك المرحلة لم نكن نسمي ما نقوم به رقص، فقد كان الرقص ممنوعا "وطنيا"، بل كانت "دبكة شعبية" وجزء من النضال الوطني من أجل تأكيد الهوية وما إلى ذلك. لم نسميه رقصا إلا في أوائل التسعينات، حين تغيرت بعض المفاهيم، وأصبح لدينا الجرأة لنسمي أنفسنا "راقصين وراقصات" في أدبيات الفرقة.
الدبكة شكلت هويتي الوطنية، وأرى تأثيرها على الأطفال والشباب الذي يشاركون في فرق الدبكة الشعبية. فالأغنية واللحن الفولكلوري وحركات الدبكة بحد ذاتها تشكل الشخص في قالب من الهوية الفلسطينية الأصيلة التي يغرف منها لكي يتمكن من الإبداع في المستقبل. كذلك كنا في بحثنا عن الألحان والحركات الجديدة نقوم بزيارات مختلفة إلى القرى القريبة والبعيدة، نسجل الألحان ونحفظ الحركات لكي نتمكن من تطوير ما نقدمه على المسرح. كنت منغمسة بكل كياني في تعلم الدبكة وتطوير حركات وتشكيلات جديدة من خلال العمل ضمن مجموعة تسمى "لجنة التصميم" ومر وقت طويل قبل أن أبدأ بالتفكير في مدلولات هذا العمل على تكويني الشخصي. فمن جهة، وجدت أنني بدأت أتقولب في إطار محدود من الحركات، ومن جهة أخرى بدأت تتكشف أمامي فضاءات ومساحات لا محدودة للحركة. وكان هناك تناقض ضمني ما بين المفهومين (قالب الدبكة الشعبية وفضاء حركة الجسد) ظهر جليا في اختلاف التوجهات الإبداعية داخل الفرقة. فللعلاقة مع الجسد قصة طويلة في بلادنا، إذ نجد معظم الناس يولدون ويكبرون ويموتون دون أن يشعروا بجسدهم كجزء أساسي من تكوينهم: هو فقط وعاء، لا وجود له سوى فيما يحمله من عقل وروح وفيما تؤديه الأطراف من نشاط تلقائي يساعد الإنسان على البقاء. أما أن يكون الجسد وسيلة للإنطلاق في مساحات أخرى كما في الرقص أو الدراما فهذا أمر غير مقبول وفي أحسن الاحوال غير مقدر.
في السنوات اللاحقة، وفي تدريبنا للدبكة للأجيال التي تلتنا، صرنا نعلم بالإضافة إلى الدبكة الشعبية الدبكة "المطورة" وهي عبارة عن تطوير لحركات الدبكة التقليدية وإضافة تشكيلات حركية بالإضافة إلى استخدام ألحان وأغاني جديدة ليست بالضرورة فولكلورية.
ومع أنني اليوم أجد أن الدبكة التقليدية تؤدي إلى "تأطير" للجسد و"تجميد" له إلا أنها أعطتني أحد القيم والعناصر الهامة في تكويني ألا وهي الشعور الطبيعي بالإنتماء إلى ثقافتي وحضارتي وتاريخي، إنتماء يعطيني دائما شعورا بالأمان اينما كنت، فحتى حينما اكون في أجواء تقمع المرأة أجد في قدرتي على إتقان الدبكة الشعبية حرية لي في الحركة ضمن هذه الأجواء. وهذا أمر يفتقد إليه الأطفال والشباب في وقتنا الحالي وهم بأمس الحاجة إليه، خاصة وأنهم لا يجدون ما يناسبهم في ثقافتنا العربية التقليدية فيتوجهون إلى الثقافة الغربية وبالتالي يحصلون على ما هو "مضاد" لهويتهم فيفقدون الإنتماء.
ومع أن عشقي الحقيقي هو للرقص، إلا أنني وجدت نفسي في بداية حياتي العملية منخرطة في مجال آخر للتعبير ألا وهو الكتابة. وبدأ اهتمامي بذلك حين بدأت ألاحظ أن الكاتبات من النساء قلة في مجتمعنا، وحين واجهت أول قمع لكتابتي الشخصية من امرأة أخرى “تقدمية” و”واعية” و”مناهضة لحقوق المرأة!” ومع انضمامي إلى مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي وعملي مع د. منير فاشه، بدأت بالتوجه نحو جيل الشباب والأطفال من خلال صفحة نخلة الشبر في جريدة القدس للسنة الأولى ومن ثم مشروع "يراعات" منذ عام 1996 وحتى يومنا هذا.
مشروع "صفحة نخلة الشبر" كان صفحة أسبوعية في جريدة القدس اليومية التي توزع 22،000 نسخة في فلسطين. الفكرة من المشروع كان توفير منبر للفتيات والفتيان والأطفال للتعبير عن تجاربهم وخبراتهم وأفكارهم، وكانت تصلنا الكتابات من كافة أنحاء فلسطين. كنت في بداية حياتي العملية وتحمست كثيرا للحماس الذي لاقته الصفحة بين الفتيات والفتيان حيث كانت تصلنا كتابات من قرى نائية ومن مدن بعيد ومن فتيات أكثر من الفتيان (70% من كتاب الصفحة كن من الفتيات). ولأن من أكبر العوائق أمام استمرار الأطفال والشبان في الكتابة هو "القلم الأحمر" أو وضع علامات حول الأخطاء الإملائية او القواعدية وإغفال المضمون، فلم أكن أدخل تعديلات كبيرة على الكتابات وأحاول قدر المستطاع أن أبقيها كما هي حتى لو كانت ركيكة بعض الشيء. وهذا الأمر واجه انتقادات عديدة، ولكننا أصرينا على هذا الموقف لأنه فعلا كان يشجع الفتيات والفتيان على الاستمرار بالكتابة والمحاولة، فالكتابة لا تحدث مرة واحدة وهي ليست فقط موهبة أو ملكة بل هي صنعة ايضا تتحسن بالممارسة.
استمرت الصفحة بالصدور لمدة سنتين توقفت بعدها لخلاف مع إدارة الصحيفة. وطالبنا العديد من كتاب وكاتبات صفحة نخلة الشبر بإعادة إصدارها، وبعد تفكير مطول وتقييم للتجربة تم تطوير فكرة إصدار صفحة أسبوعية وملحق شهري للشباب بهيئة تحرير مكونة من الكتاب والكاتبات الصغار. وفعلا، في شهر آب من عام 1996 اجتمعت هيئة التحرير لأول مرة وكانت تتكون من 8 فتيات وفتيات تتراوح اعمارهم ما بين 14 – 17 سنة، وقرروا الشكل العام للمشروع واسمه (يراعات) وبدأنا العمل وصدر أول ملحق في شهر تشرين الثاني من عام 1996 وما زالت الصفحة تصدر بشكل أسبوعي حتى يومنا هذا.
تجربة الكتابة الشخصية كانت تجربة صعبة ومميزة بالنسبة للشباب. فمن جهة، لم يتعودوا على التعبير عن خبراتهم في الكتابة (في جو المدرسة أو البيت)، وكان بالطبع هناك حضور دائم لشبح " الأهل" من حيث قدرتهم (وبشكل خاص الفتيات) على التعبير بشكل صادق عن مشاعرهم وخبراتهم. وكذلك، ظهر خلال العمل شبح آخر هو "رقابة إدارة الجريدة"، ورقابة "الجامع"، ورقابة "الدولة" حيث وقع الكتاب الصغار في مشاكل عديدة بسبب قصيدة أو مقال أو كاريكاتير قاموا بنشره. كانت هذه المشاكل تشكل عائقا في مرحلة من المراحل، سرعان ما يتم تخطيها حالما يكتشفون أن الزوبعة لا بد وأن تنحسر في وقت من الأوقات وتبقى معهم "الشهرة" و"التجربة" الصعبة ومعرفة أن الناس فعلا يقرأون الصفحة والملحق ولا تمر مر الكرام!
وكانت إحدى القضايا التي تظهر دائما فيما يتعلق بالكتابة هو الشعور الدائم بأن الكتابة هي الكتابة الإبداعية وأنه لكي أكون كاتبا يجب أن أكتب الشعر أو القصة او الخاطرة، وفي أحسن الأحوال التقرير الصحفي. كان، وما زال، من الصعب جدا أن نحث الشباب على الكتابة بشكل تأملي عن تجاربهم وخبراتهم الشخصية. هناك محاولات عديدة، لكن ولأنها لا تجد التشجيع (وأحيانا قد تواجه الإحباط الشديد)، يعود أصحابها إلى الكتابة التجريدية بدلا من التأملية.
لم تكن مهمتي سهلة، ولم أحصل على أي "تدريب" في كيفية التعامل مع الشباب أو الأطفال أو الكتابة حتى. كنت أعتمد على "منطقي الداخلي" في التعامل مع الحياة، وأتعامل معهم كما كنت أحب أن يعاملني الناس وأنا في عمرهم، وحتى وأنا في عمري الحالي. كنت أصغي إليهم، إلى ما يقولونه وما لا يقولونه. أصغي إلى حركاتهم ونظرات عيونهم وكلامهم الشفهي وما يكتبونه. عشت عالما جديدا أهم ما فيه بالنسبة لي هو أنهم يعتمدون علي وكان علي أن أكون عند حسن ظنهم. تعلمت معهم كيف نواجه المصاعب سويا دون أن نحولها إلى أزمات، كيف نتخطى مشاكل العمل كفريق وكيف نكون فريقا فعلا. كنت أراهم يتحولون أمامي من أطفال ومراهقين إلى شباب وصبايا واعين مفكرين وراشدين وكنت أتحول، لا شعوريا، معهم أيضا. تضمن ذلك بناء علاقة صداقة وحب ما بيننا فيها درجة عالية من الثقة، فكنا نتحدث أحيانا عن خصوصياتنا إما ضمن المجموعة الكبيرة أو في مجموعات صغيرة. لم أشعر أبدا انني "منسقة" للمشروع، كما لم اشعر بأنني "أكبر" منهم أو أنهم "أصغر" مني... كنا نسير سويا في قارب واحد، لكل منا مساهمته/ها في تسيير هذا القارب وفي تحديد وجهته. لم يكن لدينا خوف من "الخطأ" لأننا كنا نناقش الأمور سويا ونصل إلى رؤية مشتركة حول ما هو "صواب" وما هو "خطأ"، وإذا اكتشفنا خطأ في شيء لم نكن نخجل من الاعتراف بذلك ونعيد النظر في رؤيتنا وعملنا. أهم ما في "يراعات" كان قصة الحب التي عشناها كمجموعة وهي سبب رئيسي في استمرارية المشروع بشكله المحسوس في المؤسسة حتى اليوم وبشكله اللامحسوس في داخل كل منا.
وهنا سوف أترك المجال لبعض أعضاء هيئة التحرير ليتحدثوا بكلماتهم الخاصة حول تجربتهم في "يراعات":
تجربة أن أكون من أعضاء هيئة تحرير يراعات تجربة رائعة... بكلمة واحدة هذا ما يمكنني وصفها به... رائعة رغم كل شيء، رغم المشاكل والعقبات، أو ربما بسبب المشاكل والعقبات/ فقد كنت أتعلم من العقبات أكثر بكثير مما تعلمني الأحوال المستقرة. هذه التجربة كانت جديدة جدا علي، فأنا لم أنظر إلى نص من قبل بهدف التقييم أو بهدف اتخاذ قرار بشأنه، كما انني لم أنظر إلى هذا الكم من النصوص ولمن هم في مثل سني كذلك... بالإضافة إلى أنني لم أكن يوما مسؤولة عن إخراج جهود كثيرين غيري إلى النور، مسؤولية أتشاركها مع غيري. لعل هذه كانت أول مشكلة جدية استطعت في "يراعات" أن اتغلب عليها... لم يكن جديدا علي أن أتحمل مسؤولية، فقد كنت دائما أتحمل مسؤولياتي وإن كان بشكل مختلف.. كما أنني لم أكن جديدة على تحمل مسؤولية جهود آخرين، لكنني لأول مرة كنت سأتحمل مسؤولية غيري مع غيري. هذا العمل الجماعي لم يكن سهلا، كان جديدا، وكنت أجده صعبا. لا أدعي أنني صرت أستسهله، لكنه صار أسهل، كما أنني تعلمت أن الأهم هو أن نعمل كفريق، وهذا أهم من أن يكون العمل/الإنجاز كاملا. وتعلمت كذلك أن التجربة مهمة لذاتها، أن مجرد التجربة مكسب.. وتأكدت أن من لا يجرب لا ينجز. تعلمت كذلك في "يراعات" أن بإمكان كل منا ان يقول (يكتب) ما يريد دون أن يتعدى حدوده، وأن حقي في التعبير عن نفسي لا يتعارض وحق غيري في الاحترام، وتوصلت إلى أن بإمكاننا دائما أن نحصل على حقوقنا دون أن نسلب غيرنا حقوقهم. في "يراعات" كذلك تعلمت ان أفكر كثيرا بطريقة النقاش وأهتم بها. تعلمت ان أكون مستعدة دائما للدفاع عما أفعل، وأن اقتناعي أنا فقط بما اقوم به لا يكون كافيا دائما في العمل كجماعة. أعتقد أن هذا افادني كثيرا في حياتي كذلك. لعل أكثر ما سبب لي الإزعاج في تجربة "يراعات" هو شعوري أحيانا بلامبالاة غيري، هذه اللامبالاة التي تكون تجاه قضايا لا اعتبرها ثانوية ويعتبرونها هم كذلك... اختلاف في وجهات النظر يجعلني أشعر أن جزءا كبيرا من مشاكلنا يسببه إهمال مثل هذه القضايا. أمر آخر يزعجني كثيرا هو التعامل مع المخططات وتنفيذها بشكل يجعلها في أغلب الأحيان لا تحقق هدفها كاملا، بشكل لا يعطي الخطط حقها. ديمة عبد اللطيف، 19 سنة
(عضو هيئة تحرير من1997 – 1999)
الطريق إلى عالم آخر غير الذي نشأت فيه الستة عشر عاما الأولى من حياتي... عالم جديد أحببته كثيرا ووجدت نفسي غارقا بكل ما فيه، أنتمي إليه بكل جوارحي وأدافع عنه بكل ثقة وإخلاص. عالم وهبته كل ما لدي كي ينضج وينمو، وهو الآخر لم يبخل في منحي معظم ما يحتاجه فتى مثلي من أجل إبراز ذاته وقدراته وبث صوته بكل جرأة وتحدي وبقدر ما يستطيع وهو في سن لم يتجاوز السابعة عشر بعد. كان تطوعي في برامج مؤسسة تامر بداية الطريق لهذا العالم، ويراعات هي المرتكز الأساسي لحياتي فيه. لم أكن أتجاوز الثامنة بعد عندما بدأت أختلي في إحدى غرف منزلنا المتواضع لأحاول تقليد كتابة بيان لأحد الأطر السياسية في الانتفاضة، أو لمحاولة كتابة اي شيء آخر، ولم أكن حينها أتوقع ذلك التشجيع من أبي لدعم هذه الموهبة لدي بعدما فاجأني ذات يوم في خلوتي وقرأ بعض ما كتبت. قبل أربعة أعوام – بدايتي مع "يراعات" وبدايتها هي الأخرى – جددت "يراعات" في رغبة الكتابة والبوح بمشاعري وأفكاري للقلم والورق... واستمر ذلك التشجيع من ابي الذي منحني القوة والطمأنينة. شهدت مع "يراعات" المخاض الأول لولادتها، والطلقات الأخيرة المتعبة قبل صدور العدد الأول منها، والفرح الذي أنسانا كل شيء بمجرد صدور ذلك العدد. عندما بدأت بنشر كتاباتي في "يراعات" – قبل عامين – كنت أعتبر الكتابة تحدي لكل الواقع الذي أعيش فيه، واعتقدت ان الانسان بكلماته يستطيع المحاربة كما بجبروته وقوته وأن لا شيء في الكون يمنع حرية المرء في التفكير وكتابة ما يريد، لكن تجربتي في "يراعات" كشفت لي عن الحرية المحدودة المقيدة التي نستطيع التحرك بها ضمن ما يحدده لنا "أصحاب النفوذ". "يراعات" أول تجربة حقيقية بالنسبة لي للعمل الجماعي، وهي بالإضافة لتجاربي السابقة عمقت مفاهيمي لهذا العمل وطرق اتخاذ القرار فيه وحجم مسؤولية الفرد والمجموعة وكيف ترتبط هذه المسؤوليات ارتباطا وثيقا لا عطب فيه. تعلمت في "يراعات" حب الناس والتعامل معهم كل حسب مزاجه وتفكيره، وتعرفت على اناس كثيرين من خلال عملي فيها، وصار لي أصدقاء أجهل وجوههم وآخرون رأيتهم قليلا، إلا أن تواصل القلم جعلنا أصدقاء. الجنس الآخر... لم أكن أعرف عنه سوى القليل والخاطيء قبل تجربتي ب"يراعات". لكن في "يراعات" احتككت بذلك "المخلوق غريب الأطوار" بالنسبة لي واستطعت التعامل معه بكل ثقة وجرأة وكسرت الحاجز الذي بنته الستة عشر عاما الماضية بيني وبينه، وأصبح عالما واضحا بالنسبة لي ولم يكن بالتعقيد والصعوبة التي كنت أعتقدها. الثقة بالنفس والقدرة على التطور كانا من الأشياء الكثيرة التي عمق عالم "يراعات" وجودهما بي، وفي هذا العالم الجديد وجدت نفسي كثيرا، وكشفت عن المجالات التي من خلالها أستطيع التطور والتواصل مع من حولي.
|
|
|
|